للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بأملها، وتشوفت لخطّابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، العيونُ إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبِر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق له حين أُخبر عنها مدِّكر، فأبت القلوب لها إلا حبًّا، وأبت النفوس بها إلا ضنًّا، وما زادت لها إلا عشقًا، ومن عشق شيئًا لم يعقل غيره، ومات في طلبه، أو يظفر به، فهما عاشقان طالبان لها؛ فعاشق قد ظفر بها، واغتر وطغى، ونسي بها المبدأ والمعاد، فشغل بها لبّه، وذهل فيها عقله، حتى زلت عنها قدمُه، وجاءته أسرَّ ما كانت له مَنيّتُه، فعظمت ندامتُه وكثرت حسرته، واشتدت كُربته، مع ما عالج من سكرته واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه، وحسرةُ الموت بغُصتِه، غير موصوف ما نزل به؛ وآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته، فذهب بكربه وغمه، لم يدرك منها ما طلب، ولم يُرح نفسَه من التعب والنصب. خرجا جميعًا بغير زاد، وقدما على غير مهاد، فاحذرها الحذر كله؛ فإنها مثل الحية؛ ليِّنٌ مسُّها وسمُها يقتل، فأعرضْ عما يعجبك فيها؛ لقلة ما يصحبك منها، وضعْ عنك همومها لِما عاينتْ من فجائعها، وأيقنت به من فراقها، وكن أسرَّ ما تكون فيها أحذر ما تكون لها؛ فإنَّ صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه، وكلما ظفر بشيء منها وثنى رجلاً عليه انقلبت به. وُصلَ الرخاء فيها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، وآخرُ الحياة فيها الضعف والوهن، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر العاشق الوامق (١)، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المغرور الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يُدرى ما هو آتٍ فيها فيُنتظر، فاحذرها؛ فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر، إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة موجعة، وإما مُنية قاضية، فلقد كدّت عليه المعيشة إن عقل، وهو من النعماء على خطر، ومن البلوى على حذر، ومن المنايا على يقين، فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخبر ولم يضرب لها مثلاً، ولم يأمر فيها بزهد، لكانت الدار قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر، وفيها


(١) الوامق: المحب.

<<  <   >  >>