للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واعظ فما لها عند الله عز وجل قدْر، ولا لها عند الله تعالى وزن من الصِّغر، ولا تزن عند الله تعالى مقدار حصاة من الحصى، ولا خَلق خلقًا فيما بلغني أبغض إليه من الدنيا، ولا نظر إليها منذ خلقها مقتًا لها، ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها ولا ينقصه عند الله تعالى شيء إلا أنه علم أن الله تعالى أبغض شيئًا فأبغضه، وصغر شيئًا فصغّره، ووضع شيئا فوضعه، ولو قبلها كان الدليل على حبّه إياها قبولها، ولكنه كره أن يحب ما أبغض خالقه، وأن يرفع ما وضع مليكه، ولو لم يدله على صغر هذه الدار إلا أن الله تعالى حقرها فلم يجعل خيرها ثوابًا للمطيعين، ولا عقوبتها عذابًا للعاصين، فأخرج ثواب الطاعة منها، وأخرج عقوبة المعصية عنها، وقد يدلك على شر هذه الدار أن الله تعالى زواها عن أنبيائه وأحبائه؛ اختبارا، وبسطها لغيرهم اعتباراً واغترارا، … ينبغي للعاقل أن لا يأخذ منها إلا قدر قُوْته وما يكفي؛ حذرَ السؤال، وكراهيةً لشدة الحساب، وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام: يوم مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي لك أن تغتنمه، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا، ولا تدري لعلك تموت قبله، فأما أمس فحكيم مؤدِّب، وأما اليوم فصديق مودِّع، غير أن أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلفٌ منه، وقد كان عنك طويل الغَيبة وهو الآن عنك سريع الرحلة، وغدٌ أيضًا في يديك منه أمله، فخذ الثقة بالعمل، واترك الغرور بالأمل، قبل حلول الأجل، وإياك أن تدخل على اليوم همَّ غد أو هم ما بعده، فإن فعلت زدت في حزنك وتعبك، وأردت أن تجمع في يومك ما يكفيك أيامك. هيهات كثر الشغل، وزاد الحزن وعظم التعب .... ولئن شئت واقتصرت لأصفن لك الدنيا: ساعة بين ساعتين، ساعة ماضية وساعة آتية، وساعة أنت فيها، فأما الماضية والباقية فليس تجد لراحتهما لذة ولا لبلائهما ألمًا، وإنما الدنيا ساعة أنت فيها فخدعتك تلك الساعة عن الجنة، وصيرتك إلى النار، وإنما اليوم إن عقلت ضيفٌ نزل بك، وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نُزله وقِراه شهد لك، وأثنى عليك بذلك، وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك … فانتقدِ اليوم لنفسك، وأبصر الساعة،

<<  <   >  >>