للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تتلذذ بها الحواس؛ كلذات مسموعة، ومرئية، ومطعومة، ومشمومة، ومحسوسة، ولذات باطنة؛ كالجاه والرئاسة والعلو، والغنى والشهرة والمعارف، وغير ذلك.

إلا أن لذات الدنيا إن سلمت من الحرام فهي لذات مكدَّرة ومنغَّصة؛ وهي بجانب لذات الآخرة قليلة لا كثيرة، صغيرة لا كبيرة، ناقصة غير كاملة، مشوبة غير خالصة، منقطعة غير دائمة، لا تنال فيها نفس الإنسان كاملَ غايتها، ولا تبلغ منها كل مرادها، فتظل النفس بذلك متشوِّفة للزيادة والتغيير والتنويع، فتكون بهذا غير مقنعِة، وغير مرضية.

قال الغزالي: " لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات، ولذات الآخرة صافية غير مكدرة" (١).

ويحكي ابن الجوزي أنه رأى رجلاً قد أعطاه الله من لذات الدنيا الظاهرة ما أعطاه ثم رآه مع كل ذلك وهو يبكي، فتعجب ما الذي يبكيه وهو في هذا النعيم؟! فأجاب ابن الجوزي على نفسه فقال: " فتفكرت فعلمت أن النفس لا تقف عند حد، بل تروم من اللذات ما لا منتهى له، كلما حصل لها غرض برد عندها وطلبت سواه، فيفنى العمر، ويضعف البدن، ويقع النقص، ويرقُّ الجاه، ولا يحصل المراد. وليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليس في الدنيا على الحقيقة لذة، إنما هي راحة من مؤلم" (٢). وقال أيضًا: " من تأمل الدنيا علم أنه ليس فيها لذة أصلاً، فإن وجدت لذة شيبت بالنغص التي تزيد على اللذة أضعافاً" (٣). ثم ذكر أمثلة على لذات ممزوجة بالكدر ثم قال: " و هذا أنموذج لما لم يُذكر، فينبغي لمن وفقه الله سبحانه أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى سلامة الدين والبدن والعافية، ويهجر الهوى الذي نغصه تتضاعف على لذته" (٤).


(١) إحياء علوم الدين، للغزالي (٣/ ٣٨٠).
(٢) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: ٢٤٥).
(٣) المرجع السابق (ص: ٣٧١).
(٤) المرجع السابق (ص: ٣٧٢).

<<  <   >  >>