للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الجنة إلى لذة الدنيا؛ فإنه ليس للقلب والروح ألذ ولا أطيب ولا أحلى ولا أنعم من محبة الله والإقبال عليه وعبادته وحده، وقرة العين به والأنس بقربه والشوق إلى لقائه ورؤيته، وإن مثقال ذرة من هذه اللذة لا يعدل بأمثال الجبال من لذات الدنيا؛ ولذلك كان مثقال ذرة من إيمان بالله ورسوله يخلص من الخلود في دار الآلام، فكيف بالإيمان الذي يمنع دخولها؟! قال بعض العارفين: من قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. ويكفي في فضل هذه اللذة وشرفها أنها تخرج من القلب ألم الحسرة على ما يفوت من هذه الدنيا، حتى إنه ليتألم بأعظم ما يلتذ به أهلها ويفر منه فرارهم من المؤلم، وهذا موضعٌ الحاكمُ فيه الذوق لا مجرد لسان العلم، وكان بعض العارفين يقول: مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا طيب نعيمها، فيقال له: وما هو؟ فيقول: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، ومعرفة أسمائه وصفاته. وقال آخر: أطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته، وألذ ما في الآخرة رؤيته وسماع كلامه بلا واسطة. وقال آخر: والله إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي عيش طيب. وأنت ترى محبة من في محبته عذاب القلب والروح كيف توجب لصاحبها لذة يتمنى أنه لا يفارقه حبه؛ كما قال شاعر الحماسة:

تَشَكّى الْمُحبُّونَ الصَّبابَةَ ليْتَني … تَحَمَّلْتُ ما يَلْقَوْنَ منْ بَيْنِهمْ وحْدِي

فكَانَتْ لِنَفْسي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّها … فلَمْ يَلْقَها قَبْلِي مُحِبٌّ ولَا بَعْدِي

قالت رابعة: شغلوا قلوبهم بحب الدنيا عن الله، ولو تركوها لجالت في الملكوت، ثم رجعت إليهم بطرائف الفوائد" (١).

لذات الدنيا:

لا تخلو هذه الحياة من لذات يلتذ بها أهلها فيها، وتقر عيونهم بها، وهي لذات ظاهرة


(١) روضة المحبين، لابن القيم (ص: ١٦٤).

<<  <   >  >>