للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الظاهرة" (١).

وقال ابن القيم: " فأقسام اللذات ثلاثة: لذة جثمانية، ولذة خيالية وهمية، ولذة عقلية روحانية؛ فاللذة الجثمانية لذة الأكل والشرب والجماع، وهذه اللذة يشترك فيها مع الإنسان الحيوانُ البهيم، فليس كمال الإنسان بهذه اللذة لمشاركة أنقص الحيوانات له فيها، ولأنها لو كانت كمالاً لكان أفضل الناس وأشرفهم وأكملهم أكثرَهم أكلاً وشربًا وجماعاً، وأيضًا لو كانت كمالاً لكان نصيب رسل الله وأنبيائه وأوليائه منها في هذه الدار أكمل من نصيب أعدائه، فلما كان الأمر بالضد تبين أنها ليست في نفسها كمالاً، وإنما تكون كمالاً إذا تضمنت إعانة على اللذة الدائمة العظمى. وأما اللذة الوهمية الخيالية فلذة الرئاسة والتعاظم على الخلق والفخر والاستطالة عليهم. وهذه اللذة وإن كان طلابها أشرف نفوسًا من طلاب اللذة الأولى؛ فإن آلامها وما توجبه من المفاسد والمضار أعظم من التذاذ النفس بها؛ فإن صاحبها منتصب لمعاداة كل من تعاظم وترأس عليه؛ ولهذا شروط وحقوق تفوت على صاحبها كثيراً من لذاته الحسية ولا يتم إلا بتحمل مشاق وآلام أعظم منها، فليست هذه في الحقيقة بلذة وإن فرحت بها النفس وسُرَّت بحصولها، وقد قيل: إنه لا حقيقة للذة في الدنيا وإنما غايتها دفع آلام كما يدفع ألم الجوع والعطش وألم الشهوة بالأكل والشرب والجماع؛ ولذلك يدفع ألم الخمول وسقوط القدر عند الناس بالرئاسة والجاه، والتحقيق: أن اللذة أمر وجودي يستلزم دفع الألم بما بينهما من التضاد.

وأما اللذة العقلية الروحانية فهي كلذة المعرفة والعلم والاتصاف بصفات الكمال؛ من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر والحلم والمروءة وغيرها؛ فإن الالتذاذ بذلك من أعظم اللذات وهو لذة النفس الفاضلة العلوية الشريفة، فإذا انضمت اللذة بذلك إلى لذة معرفة الله تعالى ومحبته وعبادته وحده لا شريك له والرضا به عوضًا عن كل شيء ولا يتعوض بغيره عنه؛ فصاحب هذه اللذة في جنة عاجلة نسبتها إلى لذات الدنيا كنسبة لذة


(١) إحياء علوم الدين، للغزالي (٤/ ٣٠٩).

<<  <   >  >>