للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أما أهل الإيمان فهم يشاركون غيرهم في لذات الدنيا المباحة؛ من مأكول ومشروب ومنظور ومنكوح ومركوب ومحسوس وغير ذلك، غير أنهم يستعينون بذلك على طاعة الله التي توصلهم إلى اللذة التامة الباقية في الآخرة.

فـ" لذات الدنيا ونعيمها متاع ووسيلة إلى لذات الدار الآخرة؛ ولذلك خُلقت؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة) (١). فكل لذة أعانت على لذات الدار الآخرة فهي محبوبة مرضية للرب تعالى، فصاحبها يلتذ بها من جهتين: من جهة تنعمه وقرة عينه بها، ومن جهة إيصالها له إلى مرضاة ربه وإفضائها إلى لذة أكمل منها، فهذه هي اللذة التي ينبغي للعاقل أن يسعى في تحصيلها، لا اللذة التي تعقبه غاية الألم، وتفوت عليه أعظم اللذات؛ ولهذا يثاب المؤمن على كل ما يلتذ به من المباحات إذا قصد به الإعانة والتوصل إلى لذة الآخرة ونعيمها" (٢).

قال ابن القيم: " لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه فأشرف الناس نفسًا وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً مَنْ لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء … وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة، ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه، فهذا ممن قال تعالى فيه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: ٣٢]. وأبخسهم حظًا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة، فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ


(١) رواه مسلم (٢/ ١٠٩٠).
(٢) روضة المحبين، لابن القيم (ص: ١٥٧).

<<  <   >  >>