للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهَا} [الأحقاف: ٢٠]. فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا بالطيبات وافترقوا في وجه التمتع؛ فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أذن لهم فيه، فجُمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة، وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، وسواء أذن لهم فيه أم لا، فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة، فلا لذة الدنيا دامت لهم ولا لذة الآخرة حصلت لهم. فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلاً له إلى لذة الآخرة، بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله وإرادته وعبادته، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى، وإن كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة، ويجم نفسه ههنا بالترك ليستوفيها كاملة هناك، فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة، وكانت همته لما هناك، وبئس القاطع لمن كانت هي مقصودة وهمته وحولها يدندن، وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة، فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعًا وإلا خسرهما جميعاً" (١).

وينفرد أهل الإيمان بلذة أخرى هي أعظم لذات الدنيا، بل هي نموذج من لذات الجنة عُجِّلت لأهلها في هذه الحياة، هذه اللذة هي لذة المعرفة والطاعة، لذة المعرفة لله تعالى والعلم به، ولذة التقرب إليه وعبادته. حيث يجد المؤمن أحسن لذاته في التفكر في آيات الله المشهودة الدالة على عظمته وجلاله وحكمته، وفي نعم الله على خلقه الدالة على عفوه ورحمته وفضله، كما يجدها في صلاة خاشعة وتلاوة متدبرة، وتضرع بين يدي مولاه، وإحسان يقدمه إلى عباد الله ابتغاء وجهه. وغير ذلك من أنواع العبادات اللازمة والمتعدية. فهذه اللذة حق خالص للطائعين ولا حظ فيها لأهل العصيان. قال الغزالي: " أجل اللذات وأعلاها معرفة الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم" (٢).


(١) الفوائد، لابن القيم (ص: ١٥٠).
(٢) إحياء علوم الدين، للغزالي (٤/ ٣٠٧).

<<  <   >  >>