للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والمؤمن " يلتذ في الدنيا بكل ما يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى من الأكل والشرب واللباس والنكاح، وشفاء الغيظ بقهر العدو وجهاد في سبيله، فضلاً عما يلتذ به من معرفة ربه وحبه له وتوحيده والإثابة إليه، والتوكل عليه والإقبال عليه وإخلاص العمل له والرضا به وعنه، والتفويض إليه وفرح القلب وسروره بقربه والأنس به والشوق إلى لقائه؛ كما في الحديث الذي صححه ابن حبان والحاكم وأسألك: (لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك) وهذه اللذة لا تزال في الدنيا في زيادة مع تنقيصها بالعدو الباطن من الشيطان والهوى والنفس والدنيا والعدو الظاهر، فكيف إذا تجردت الروح وفارقت دار الأحزان والآفات واتصلت بالرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليمًا، فإذا أفضى إلى دار النعيم فهنالك من أنواع اللذة والبهجة والسرور ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فبؤسًا وتعسًا للنفوس الوضيعة الدنيئة التي لا يهزها الشوق إلى ذلك طربا، ولا تتقد نار إرادتها لذلك رغبا، ولا تبعد عما يصد عن ذلك رهبا، فبصائرها كما قيل:

خفافيشُ أعشاها النهارُ بضوئهِ … ولاءمَها قِطْعٌ من الليل مظلمُ

تجول حول الحُش (١) إذا جالت النفوس العلوية حول العَرش، وتندس في الأحجار، إذا طارت النفوس الزكية إلى أعلى الأوكار" (٢).

بيد أن لذات الجنة لا تتم إلا باللذة العظمى والنعمة الكبرى ألا وهي النظر إلى وجه الله الكريم، "قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦]. وهذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى، وهي اللذة الكبرى التي يُنسى فيها نعيمُ أهل الجنة (٣).


(١) الحش: الكنيف والمتوضَأ. المعجم الوسيط (١/ ١٧٦).
(٢) روضة المحبين، لابن القيم (ص: ١٦٠).
(٣) إحياء علوم الدين، للغزالي (٤/ ٥٤٣).

<<  <   >  >>