للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ورأى إياس بن قتادة العبشمي شيبة في لحيته فقال: أرى الموت يطلبني وأراني لا أفوته، أعوذ بالله من فجأة الأمور. يا بني سعد، قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبي. ولزم بيته. فقال أهله: تموت هزلاً. قال: لأن أموت مهزولاً مؤمناَ، أحب إلي من أن أموت منافقاً سميناً (١).

وقال بعض البلغاء: الشيب حلية العقل، وسمة الوقار، وعنوان التجربة، وشاهد الحنكة. وقال آخر: الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب. وقال آخر: إذا شاب الغافل سرى في طريق الرشد بمصابيح الشيب (٢).

وقال البديع الهمداني في رسالة له: جزى الله المشيب خيراً؛ فإنه أناة، ولا ردَّ الشباب فإنه هَنات (٣)، وأظنهما لو مثِّلا لمثِّل الشباب كلباً عقوراً، والشيب شيخاً وقوراً، ولاشتعل الأول ناراً، واشتهر الآخر نوراً. فالحمد لله الذي بيّض القار، وسماه الوقار، وعسى الله أن يغسل الفؤاد، كما غسل السواد (٤).

فمن حلَّ على رأسه نذير الشيب فلم يرعوِ عن غيه، بل استمر في تقصيره ولهوه، وما رجع إلى ربه من تفريطه وإباقه، ولم يردعه الشيب عن الغواية، ويسلك به طرق الهداية؛ فقد تُودِّع منه؛ ولهذا قيل: "من لم يرعو عند الشيب، ولم يستح من العيب، ولم يخش الله في الغيب، فليس لله فيه حاجة" (٥).

قال بعضهم:

وما أقبحَ التَّفريطَ في زمنِ الصِّبا … فكيف به والشَّيبُ للرَّأس شامِلُ


(١) المرجع السابق.
(٢) تحسين القبيح وتقبيح الحسن، للثعالبي (ص: ٤٠).
(٣) أي شرور وفساد. المعجم الوسيط (٢/ ٩٩٨).
(٤) تحسين القبيح وتقبيح الحسن، للثعالبي (ص: ٤٠).
(٥) فيض القدير، للمناوي (٣/ ٣٣٢).

<<  <   >  >>