للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

غفلته، ويستعد بالزاد الصالح لرحلته إليه. فاستيقظ-أيها المؤمن- واستعد لوطنك الغالي؛ " فأول منازل العبودية اليقظة، وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة، وما أعظم قدرها وخطرها، وما أشد إعانتها على السلوك! فمن أحسَّ بها فقد أحس -والله- بالفلاح، وإلا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمّر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى، وأوطانه التي سُبي منها" (١).

قال عُمرُ بنُ عبد العزيز في إحدى خطبه: "إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِكُم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظَّعَن، فكم من عامرٍ موثَّق عن قليلٍ يَخْرَب، وكم من مقيمٍ مُغتَبطٍ عما قليل يَظعَن، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرِّحلة بأحسن ما بحضرتكم مِنْ النقلة، وتزوَّدوا؛ فإنَّ خيرَ الزَّاد التقوى" (٢).

وعلى المؤمن أن " يُنْزِلَ نفسَه في الدنيا كأنَّه مسافرٌ غيرُ مقيم البتة، وإنَّما هو سائرٌ في قطعِ منازل السَّفر حتّى ينتهي به السفرُ إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حالَه في الدنيا، فهمَّتُه تحصيلُ الزاد للسفر، وليس له هِمَّةٌ في الاستكثار من متاع الدنيا؛ ولهذا أوصى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- جماعةً من أصحابه أن يكونَ بلاغُهم من الدُّنيا كزادِ الرَّاكب" (٣).

قال ابن رجب: " قال داود الطائي: إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مرحلةً مرحلةً، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلة زاداً لِما بَينَ يديها، فافعل؛ فإنَّ انقطاع السَّفر عن قريب ما هو، والأمر أعجلُ من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقضِ ما أنتَ قاضٍ من أمرك، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتك.

وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له: يا أخي، يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم، بل أنتَ دائبُ السَّيرِ،


(١) مدارج السالكين، لابن القيم (١/ ١٢٣).
(٢) جامع العلوم والحكم، لابن رجب (٤٢/ ٣).
(٣) المرجع السابق.

<<  <   >  >>