ولو تنقلت الروح في المواطن كلها والمنازل، لم تستقر ولم تطمئن إلا في وطنها ومحلها الذي خُلقت له كما قيل:
نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى … ما الحُبُّ إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى … وحنينُه أبداً لأول منزل
وإذا كانت الروح تحنُّ أبداً إلى وطنها من الأرض- مع قيام غيره مقامه في السكنى، وكثيراً ما يكون غير وطنها أحسن وأطيب منه، وهي دائمًا تحن إليه، مع أنه لا ضرر عليها ولا عذاب في مفارقته إلى مثله-؛ فكيف بحنينها إلى الوطن الذي في فراقها له عذابها وآلامها، وحسرتها التي لا تنقضي. فالعبد المؤمن في هذه الدار سُبيَ من الجنة إلى دار التعب والعناء، ثم ضُرب عليه الرِّق فيها، فكيف يُلام على حنينه إلى داره التي سُبي منها، وفُرِّق بينه وبين من يحب، وجُمع بينه وبين عدوه، فروحه دائمًا معلّقة بذلك الوطن، وبدُنه في الدنيا … وكلما أراد منه العدو نسيانَ وطنه، وضرب الذكر عنه صفحًا وإيلافه وطنًا غيره أبتْ ذلك روحُه وقلبه، كما قيل:
يُرادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيانُكُمْ … وتأبَى الطّباعُ على النّاقِلِ
ولهذا كان المؤمن غريبًا في هذه الدار أين حلَّ منها، فهو في دار غربة .. ولكنها غربة تنقضي، ويصير إلى وطنه ومنزله، وإنما الغربة التي لا يُرجى انقطاعها فهي غربة في دار الهوان، ومفارقة وطنه الذي كان قد هُيء وأعد له، وأُمر بالتجهيز إليه، والقدوم عليه، فأبى إلا اغترابه عنه، ومفارقته له، فتلك غربة لا يُرجى إيابُها، ولا يجبر مصابُها" (١).
استعد للعودة:
فلما كان الأمر على بساط هذه الحقيقة التي توصلنا إلى اليقين بأن وطننا ليس هنا، وإنما هو في الآخرة، وليس للمؤمن فيها من وطن إلا الجنة؛ تحتم عليه أن يستيقظ من