للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن المؤمن اليقِظ لا يجعل الدنيا وطنه، بل هو عنها "مسافر في ليله ونهاره ويقظته ومنامه، لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه، قد رُفع له عَلم الحُب فشمر إليه وناداه داعي الاشتياق فأقبل بكليته عليه، أجاب منادي المحبة إذ دعاه: حي على الفلاح، ووصل السُّرى في بيداء الطلب، فحمد عند الوصول سُراه، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح" (١).

الجنة وطن المؤمن:

إن وطن المؤمن الحقيقي الذي يجب أن يعمل للعودة إليه، ويكون دائم الحنين إلى الوصول إلى نواحيه هو الجنة. وقد أرى الله أبا البشر تلك الدار" وأسكنه إياها، ثم قصَّ على بنيه قصته، فصاروا كأنهم مشاهدون لها، حاضرون مع أبيهم، فاستجاب من خُلق لها وخُلقت له، وسارع إليها فلم يثنه عنها العاجلة، بل يعد نفسه كانه فيها، ثم سباه العدو، فيراها وطنه الأول، فهو دائم الحنين إلى وطنه ولا يقر له قرار حتى يرى نفسه فيه" (٢).

إن روح المؤمن تحن إلى وطنها الأول، وراحتها في السعي إليه، وأما عذابها وشقاؤها ففي الانغماس فيما يلهيها عنه، ولا شفاء لها من ذلك إلا إفاقتها من غمرتها، وصحوها من سُكرها، واستقرارها بعد ذلك في دارها. قال ابن القيم: "فأعظم عذاب الروح انغماسها وتدسيسها في أعماق البدن، واشتغالها بملاذه وانقطاعها عن ملاحظة ما خُلقت له، وهُيئت له، وعن وطنها ومحلها ومحل أُنسها، ومنزل كرامتها، ولكن سُكر الشهوات يحجبها عن مطالعة هذا الألم والعذاب، فإذا صحت من سكرها وأفاقت من غمرتها أقبلت عليها جيوشُ الحسرات من كل جانب، فحينئذ تتقطع حسراتٍ على ما فاتها من كرامة الله وقربه، والأنس به والوصول إلى وطنها الذي لا راحة لها إلا فيه كما قيل:

صحِبتُك إذْ عينيْ عليها غشاوةٌ … فلما انجلتْ قطّعتُ نفسي ألومُها


(١) طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: ٩٢).
(٢) مفتاح دار السعادة، لابن القيم (١/ ٩).

<<  <   >  >>