للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

للمؤمن أنْ يكون حالُه فيها على أحد حالين: إما أنْ يكونَ كأنَّه غريب مقيمٌ في بلد غُربةٍ، هَمُّه التزوُّد للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنَّه مسافرٌ غير مقيم البتَّة، بل هو ليله ونهارَه، يسيرُ إلى بلدِ الإقامة؛ فلهذا وصّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنَ عمر أنْ يكونَ في الدُّنيا على أحد هذين الحالين. فأحدهما: أنْ ينْزِل المؤمن نفسه كأنَّه غريبٌ في الدنيا يتخيَّلُ الإقامةَ، لكن في بلد غُربةٍ، فهوَ غيرُ متعلِّقِ القلب ببلد الغربة، بل قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يَرجِعُ إليه، وإنّما هو مقيمٌ في الدنيا ليقضي مَرَمَّةَ (١) جهازه إلى الرجوع إلى وطنه، قال الفضيلُ بن عياض: المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزين، همُّه مَرَمَّةُ جهازه، ومن كان في الدنيا كذلك فلا همَّ له إلا في التزوُّد بما ينفعُه عندَ عودِه إلى وطنه، فلا يُنافِسُ أهلَ البلدِ الذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم، ولا يَجْزَعُ من الذلِّ عندهم، قال الحسن: المؤمن في الدُّنيا كالغريب لا يجزع من ذُلها، ولا يُنافِسُ في عِزِّها، له شأنٌ، وللناس شأن" (٢).

وقال ابن دقيق العيد: " في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على التشبه بالغريب؛ لأن الغريب إذا دخل بلدة لم ينافس أهلها في مجالسهم، ولا يجزع أن يراه أحد على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون متدابراً معهم، وكذلك عابر السبيل لا يتخذ داراً، ولا يلجّ في الخصومات مع الناس يشاحنهم، ناظراً إلى أن لبثه معهم أيام يسيرة، فكل أحوال الغريب وعابر السبيل مستحبة أن تكون للمؤمن في الدنيا؛ لأن الدنيا ليست وطنًا له؛ لأنها تحبسه عن داره وهي الحائلة بينه وبين قراره" (٣). وقال العيني: " هذه كلمة جامعة لأنواع النصائح؛ إذ الغريب لقلة معرفته بالناس قليل الحسد والعداوة والحقد، والنفاق والنزاع، وسائرُ الرذائل منشؤها الاختلاط بالخلائق، ولقلة إقامته قليل الدار والبستان والمزرعة والأهل والعيال وسائر العلائق التي هي منشأ الاشتغال عن الخالق" (٤).


(١) المرمة: متاع البيت. المعجم الوسيط (١/ ٣٧٤).
(٢) جامع العلوم والحكم، لابن رجب (٤٢/ ٤).
(٣) شرح الأربعين - ابن دقيق العيد (ص: ١٠٤).
(٤) من تعليق د. البغا على: صحيح البخاري (٥/ ٢٣٥٨).

<<  <   >  >>