للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سفره فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل. وقال غيره: هذا الحديث أصل في الحث على الفراغ عن الدنيا والزهد فيها، والاحتقار لها والقناعة فيها بالبلغة. وقال النووي: معنى الحديث: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. وقال غيره: عابر السبيل هو المار على الطريق طالبًا وطنه، فالمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه، ثم يعود إلى وطنه، ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه. وقال غيره: المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب فلا يعلق قلبه بشيء من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب. أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه، بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة" (١).

وقال ابن رجب: " وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا؛ فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيئ جهازه للرحيل، وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنّه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: (مالي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كمثل راكبٍ قالَ (٢) في ظلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وتركها) (٣). ومن وصايا المسيح - عليه السلام - لأصحابه أنَّه قال لهم: اعبُروها ولا تَعمُرُوها، ورُوي عنه أنَّه قال: من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً! تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قرارا" (٤).

وقال ابن رجب أيضًا: " وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطناً، فينبغي


(١) فتح الباري (١١/ ٢٣٤).
(٢) قال: من القيلولة وهي النوم نصف النهار.
(٣) رواه أحمد (٧/ ٢٥٩)، والترمذي (٤/ ٥٨٨)، وابن ماجه (٢/ ١٣٧٦)، وهو صحيح.
(٤) جامع العلوم والحكم، لابن رجب (٤٢/ ٢).

<<  <   >  >>