للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الصباح، فلما أصبح قيل له: أكلَّ هذا خوفًا من الذنوب؟! فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكي خوفًا من الخاتمة. وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تَخْذُلَهُ ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى. وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه لما احتُضِر جعل يُغمى عليه ثم يُفيق ويقرأ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: ١١٠]. فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابًا بينهم وبين الخاتمة الحسنى.

قال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة، وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: ٦٠]. ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع فقيل له: يا أبا عبد الله، عليك بالرجاء؛ فإن عفو الله أعظم من ذنوبك، فقال: أوَ على ذنوبي أبكي؟! لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبالِ بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا" (١).

قال ابن رجب: "وفي الجملة: فالخواتيم ميراثُ السوابق، وكلُّ ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتدُّ خوف السَّلف من سُوءِ الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق، وقد قيل: إنَّ قلوب الأبرار معلقةٌ بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقرَّبين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟. وبكى بعضُ الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الله تعالى قبضَ خلقَهُ قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنَّةِ، وهؤلاء في النار)، ولا أدري في أيِّ القبضتين كنت؟. قال بعض السَّلف: ما أبكى العيونَ ما أبكاها الكتاب السابق! وقال سفيانُ لبعض الصالحين: هل أبكاك قطُّ علمُ الله فيك؟ فقال له ذلك الرجل: تركتني لا أفرحُ أبداً. وكان سفيان يشتدُّ قلقُهُ من السوابق والخواتم، فكان يبكي ويقول: أخاف أنْ أكون في أمِّ


(١) الجواب الكافي، لابن القيم (ص: ١١٧).

<<  <   >  >>