للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وانفسح. وهل هملت الدموع الصادقة عند تلاوته أو سماعه إلا بتدبره، وخشعت القلوب بعد أن كانت قاسية كالحجارة إلا بتعقله، وهل عرفت علوم الشريعة إلا بالنظر فيه، والتفكر فيما يحويه. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} [النساء ٨٢].

لقد كان لأهل الإيمان مع تدبر القرآن حديث مؤثر، خشعت له قلوبهم، ودمعت منه عيونهم، وسارعت به إلى الأعمال الصالحة جوارحهم.

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي القرآن). قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: (إني أشتهي أن أسمعه من غيرى). فقرأت النساء حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء ٤١]، رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل (١).

فما الذي أبكاه عليه الصلاة والسلام إلا التدبر والتفكر فيما سمع.

وكان خليفته أبوبكر الصديق رضي الله عنه رجلاً أسيفاً أي: حزيناً لا يفتتح الصلاة قارئاً إلا هملت عيناه، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان أبو بكر إذا قرأ القرآن كثيرَ البكاءِ". زاد بعضهم: "في صلاة وغيرها" (٢). وعنها قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكَّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين" (٣).


(١) رواه البخاري (٤/ ١٩٢٧)، ومسلم (١/ ٥٥١).
(٢) جامع الأصول، لابن الأثير (٢/ ٤٦٦).
(٣) صحيح البخاري (١/ ١٨١).

<<  <   >  >>