للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

بد له من زاد وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه:

الأول: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن. وثانيها: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم. وثالثها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة، آمنة من الانقطاع والزوال. ورابعها: أن زاد الدنيا يُوصِلُك إلى دُنيا مُنقضيةٍ وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول غير منقضية. وخامسها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس.

فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى، إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية فكأنه تعالى قال: لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني: إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد؛ لما فيه من كثرة المنافع (١).

قال الأعشى:

إذا أنْتَ لمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى … وَلاقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قد تزَوّدَا

نَدِمْتَ على أنْ لا تَكُونَ كمِثْلِهِ … وأنكَ لمْ ترصدْ لما كانَ أرصدا (٢)

"لما حضرت عبيدَ الله بن شداد الوفاةُ دعا ابنه محمداً فأوصاه وقال له: يا بني، أرى داعِي الموت لا يقلع وبحقٍّ إنَّ من مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع. يا بني، ليكن أولى الأمور بك تقوى الله في السر والعلانية، والشكر لله، وصدق الحديث والنية؛ فإن للشكر


(١) تفسير الرازي: مفاتيح الغيب (٥/ ١٤٣).
(٢) ديوان الاعشى (٤/ ١).

<<  <   >  >>