للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الباب الأول: التوبة]

قال اللَّه تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ - أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: ٥٢ - ٥٩].

قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى في تفسيره العظيم: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن اللَّه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: ٦٨]، ونزل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (١) ...

فهذه الأحاديث كلها: دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة اللَّه، وإن عظمت ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة واسع، قال اللَّه تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: ١٠٤]، وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: ١١٠]، وقال جل وعلا في حق المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ} [النساء: ١٤٥، ١٤٦]، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج: ١٠].

قال الحسن البصري رحمه اللَّه: انظروا إلى هذا الكرم والجود: قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة! والآيات في هذا كثيرة جدًّا، وفي «الصحيحين» عن أبي


(١) أخرجه البخاري ورواه مسلم وأبو داود والنسائي.

<<  <   >  >>