للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خامسًا: أدعية الكرب: وهي مختصرة من «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه تعالى (جـ٤ ص ١٩٦: ٢٠٩) مع تقديم وتأخير في الشرح:

١، ٢ - أخرجا في «الصحيحين» من حديث ابن عباس أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم» (١).

خلق اللَّه سبحانه ابن آدم وأعضاءه، وجعل لكل عضو منها كمالاً إذا فقده أحس بالألم، وجعل لملكها وهو القلب كمالاً، إذا فقده، حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان.

فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الإبصار، وفقدت الأذن ما خلقت له من قوة السمع، واللسان ما خلق له من قوة الكلام، فقدت كمالها.

والقلب: خلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة، بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة، فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته، فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه، ورهنٌ مقيم عليه.

ومن أعظم أدوائه: الشرك والذنوب والغفلة والاستهانة بمحابه ومراضيه، وترك التفويض إليه، وقلة الاعتماد عليه، والركون إلى ما سواه، والسخط بمقدوره، والشك في وعده ووعيده.

وإذا تأملت أمراض القلب، وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها لا سبب لها سواها، فدواؤه الذي لا دواء له سواه ما تضمنته هذه العلاجات النبوية من الأمور المضادة لهذه الأدواء، فإن المرض يزال بالضد، والصحة تحفظ بالمثل، فصحته تحفظ بهذه الأمور النبوية، وأمراضه بأضدادها.

فالتوحيد: يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والابتهاج، والتوبة استفراغ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه، وحمية له من التخليط، فهي تغلق عنه باب الشرور، فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد، ويغلق باب الشرور بالتوبة والاستغفار.

قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: من أراد عافية الجسم، فليقلل من الطعام والشراب، ومن أراد عافية القلب، فليترك الآثام. وقال ثابت بن قرة: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام.

والذنوب للقلب بمنزلة السموم، إن لم تهلكه أضعفته، ولا بد وإذا ضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض. قال طبيب القلوب عبد اللَّه بن المبارك:

رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذلَّ إدمانُها

وترك الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخير لنفسك عصيانُها

فالهوى أكبر أدوائها، ومخالفته أعظم أدويتها، والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة، فهي لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها، وإنما فيه تلفها وعطبها، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح، بل تضع الداء موضع الدواء فتعتمده، وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولد من بين إيثارها للداء واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء، ويتعذر معها الشفاء، والمصيبة العظمى، أنها تركب ذلك على القدر، فتبرئ نفسها، وتلوم ربها بلسان الحال دائمًا، ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان.

وإذا وصل العليل إلى هذه الحال، فلا يطمع في برئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه، فيحييه حياة جديدة، ويرزقه طريقة حميدة، فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة، والإحسان والتجاوز، ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي والسفلي، والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها. والربوبية التامة تستلزم توحيده، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له. وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه. وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه.

فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه، ويقوى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.

ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها دعاء الكرب، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور، وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها، وباشر قلبه حقائقها). اهـ من «زاد المعاد».

قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في «الفتح» (ج١١ ص ١٥١، ١٥٢).

قال الطبري: معنى قول ابن عباس «يدعو» وإنما هو تهليل وتعظيم يحتمل أمرين:

أحدهما: أن المراد تقديم ذلك قبيل الدعاء كما ورد في طريق يوسف بن عبد اللَّه بن


(١) هذه الرواية غير التي أوردها ابن القيم في «زاد المعاد» وإنما هي متفق عليها نقلاً عن «الفتح» (جـ١١ ص٤١٦) و «شرح مسلم» (جـ١٧ ص ٧٣)، وفي رواية أخرى للبخاري كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو عند الكرب يقول: «لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم» وانظر «جامع الأصول» (جـ٤ ص ٢٩٤) لابن الأثير رحمه اللَّه تعالى حيث ذكر تفصيلاً آخر. (قل).

<<  <   >  >>