للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العيوب، فإن الراغب في شيء لا يرى عيوبه حتى إذا زالت رغبته فيه أبصر عيوبه، فشدة الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على ما هو عليه. والداخل في الشيء لا يرى عيوبه، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه، ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه، ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خيرًا من الذين ولدوا في الإسلام، قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: «إنما تنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا ولد في الإسلام من لا يعرف الجاهلية».

وأما إفساده للحواس ظاهرًا فإنه يمرض البدن وينهكه، وربما أدى إلى تلفه، كما هو معروف في أخبار من قتله العشق.

وقد رفع إلى ابن عباس وهو بعرفة شاب قد نحل حتى عاد جلدًا على عظم، فقال: ما شأن هذا؟

قالوا: به العشق، فجعل ابن عباس يتعوذ باللَّه من العشق عامة يومه.

الثامنة: أن العشق كما تقدم هو الإفراط في المحبة، بحيث يستولي المعشوق على القلب من العاشق، حتى لا يخلو من تخيله وذكره والتفكر فيه، بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه، فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية فتتعطل تلك القوى، فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يعسر دواؤه ويتعذر، فتتغير أفعاله وصفاته ومقاصده، ويختل جميع ذلك فيعجز البشر عن صلاحه، كما قيل:

الحب أول ما يكون لجاجة ... يأتي بها وتسوقه الأقدار

حتى إذا خاض الفتى لجج الهوى ... جاءت أمور لا تطاق كبار

والعشق مبادئه سهلة حلوة، وأوسطه هم وشغل قلب وسقم، وآخره عطب وقتل إن لم تتداركه عناية من اللَّه.

والعاشق له ثلاث مقامات: مقام ابتداء، ومقام توسط، ومقام انتهاء.

فأما مقام ابتدائه: فالواجب عليه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول إلى معشوقه متعذرًا قدرًا وشرعًا، فإن عجز من ذلك وأبى قلبه إلا السفر إلى محبوبه، وهذا مقام التوسط والانتهاء - فعليه كتمان ذلك وألا يفشيه إلى الخلق، ولا يشمت بمحبوبه ولا يهتكه بين الناس، فيجمع بين الظلم والشرك. فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم. وربما كان أعظم ضررًا على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله، فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه إلى وقوع الناس فيه وانقسامه إلى مصدق ومكذب، وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة.

<<  <   >  >>