أصلاً، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام، فلو لم يكن ترك الذنوب إلا حذرًا من وقوع تلك الوحشة، لكان العاقل حريًّا بتركها، وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه، فقال له: إذا كنت قد أوحشتك الذنوب، فدعها إذا شئت واستأنس.
وليس على القلب أمرّ من وحشة الذنب على الذنب، فاللَّه المستعان.
٣ - ومنها: الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم، وحرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه، فتراه مستوحشًا من نفسه. وقال بعض السلف: إني لأعصي اللَّه فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي.
٤ - ومنها: تعسير أموره، فلا يتوجه إلى أمر إلا ويجده مغلقًا دونه، أو متعسرًا عليه، وهذا كما أن من اتقى اللَّه جعل له من أمره يسرًا، فمن عطل التقوى جعل اللَّه له من أمره عسرًا، ويا للعجب؟ كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه وهو لا يعلم من أين أُتي؟
٥ - ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهمّ، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سوادًا حتى يراه كل أحد.
٦ - ومنها: أن المعاصي توهن القلب والبدن:
أما وهنها للقلب: فأمر ظاهر، بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية.
وأما وهنها للبدن: فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنه، وأما الفاجر فإنه - وإن كان قوي البدن - فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم؟
٧ - ومنها: حرمان الطاعة: فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أنه يصد عن طاعة تكون بدله، ويقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه طريق ثالثة، ثم رابعة وهلم جرا، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها، وهذا كرجل أكل