والمسيحُ - عليه السلامُ - خُلِقَ من مريمَ ونفخة جبريلَ، وهيَ حملتْ به
كمَا تحملُ النساءُ وولدتْه، فلِهَذا يقالُ لهُ: ابنُ مريمَ، بخلافِ حواءَ فإنَّها
خُلِقَتْ من ضِلْع آدمَ، فلا يُقالُ: إنَّه أبوهَا ولا هيَ ولدُهُ.
وكذلك سائرُ المتولداتِ من غيرِهِما.
كما أنَّ آدمَ لا يُقالُ: إنَّه ولدُ الترابِ ولا الطينِ، والمتولِّدُ منْ جنسِهِ أكملُ
من المتولدِ من غيرِ جنْسِهِ، ولهذا كان خلقُ آدمَ أعجبَ منْ خَلْقِ أولادِهِ.
فإذا نُزِّهَ الربُّ عنِ المادةِ العَلَقِ وهيَ التولدُ منْ النظيرِ، فتنزُّهُهُ عن تولدِهِ
من غيرِ نظيرٍ أولى، كما أنَّ تنزيهَهُ عنِ الكفوِ تنزيهٌ له عنْ أنْ يكونَ غيرُهُ
أفضلَ منه بطريقِ الأولى.
فتبيَّنَ أنَّ ما يُقالُ: إنَّه متولدٌ من غيره منَ الأعْيانِ القائمة بنفسِهَا لا يكونُ
إلا منْ مادةٍ تخرجُ منْ ذلكَ الوالدِ، ولا تكونُ إلا منْ أصلينِ، والربُّ تعالى
صمَدٌ، فيمتنعُ أنْ يخرجَ منه شيءٌ وهو - سبحانه - لمْ يكنْ له صاحبةٌ فيمتنعْ
أن يكونَ له ولدٌ.
وأمَّا تولدُ الأعْراضِ كتولدِ الشعاع، وتولدِ العِلْم عنِ الفكرةِ والشبع عنِ
الأكْلِ، والحرارةِ عن الحركةِ ونحوِ ذلك.
فهذا ليسَ من تولدِ الأعْيانِ معَ أنَّ هذا لا بدَّ لهُ منْ محل، ولا بدَّ له من
أصلينِ كالشعاع فإنَّه يحتاجُ إلى محاذَاةِ جسم نُوريٍّ لجسمٍ آخرَ يقابلُهُ فينعكِسُ
عليه شعاعُهُ.
فقد تَضَمَّنتْ هذه السورةُ العظيمةُ نفْيَ نوعينِ عنِ اللَّهِ تعالى:
أحدُهُما: المماثلةُ، ودلَّ على نفيهَا قولُهُ تعالى: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)