فرمَى الرَّجُلُ ما بيده من الشرابِ في الماء، وقال: أشهدُ أن هذا أحسنُ مما سمعت، فهل غير هذا؟
قال: نعم فتلا عليه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) الآية، فوقعت
من قلبه موْقعًا، ورمَى بالشرابِ وكسر العُودَ، ثم قال: يا فتى هل هنا فرجٌ
قال: نعم. (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) .
فصاح صيْحة عظيمةً، فنظروا إليه فإذا هو قد ماتَ - رحمه اللَّه.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ له أنَّ صالحًا المُرِّيَّ - رحمه اللَّه - كان يومًا في
مجلسِه يقُصُّ على الناس، فقرأ عنده قارئ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨) .
فذكر صالحٌ النار وحالَ العصاة فيها، وصِفَةَ سياقهم إليها، وبالغ في ذلك وبكى الناس، فقام فتًى كان حاضرًا من مجلسِه، وكان مسرفًا على نفسه، فقال: أكُلُّ هذا في القيامة؟
قال صالح: نعم، وما هو أكثر منه، لقد بلغني أنَّهم يصرخُون
في النار حتى تنقطع أصواتُهم فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنينِ من المريضِ
المدنَفِ، فصاح الفتى: يا للَّه وا غفْلتاهُ عن نفسِي أيامَ الحياة، وا أسفاهُ على
تفريطي في طاعتك يا سيداهُ وا غفلتاه على تضييع عمري في دارِ الدنيا ثم
استقبلَ القِبْلةَ، وعاهَدَ اللَّهَ على توبةٍ نصوح، ودعا اللَّهَ أنا يتقبَّلَ منه وبكى
حتى غُشي عليه، فحُمِلَ من المجلسِ صريعًا، فمكث صالح وأصحابه
يعودُونه أيامًا، ثم مات، فحضره خَلْقٌ كثير، فكان صالح يذكره في مجلسِهِ
كثيرًا، ويقول: وبأبي قتيل القرآن؛ وبأبي قتيلَ المواعظِ والأحزانِ؛ فرآه رجل في منامِهِ، فقال: ما صنعتَ؟
قال: عمَتْنِي بركةُ مجلس صالح فدخلتُ في