الوجه الثالث: أنَّ "إن" المكفوفةُ "بما" استُعْملتْ في الحصرِ فصارتْ حقيقةً
عرفيَّةً فيه، واللفظُ يصيرُ لَهُ بالاسْتعمالِ مَعْنى غيرَ مَا كانَ يقْتضِيهِ أصلُ
الوضع، وهكذا يُقالُ في الاستثناءِ فإنَه وإنْ كانَ في الأصلِ للإخراج منَ
الحكْم لكنْ صارَ حقيقة عرفيةً في مناقضةِ المستَثْنى فيه، وهذا شبية بنقلِ اللفظِ
عنِ المعنى الخاصِ إلى العامِ إذا صارَ حقيقة عرفيةً فيه لِقَوْلِهِم "لا أشربُ له
شربةَ ماءٍ" ونحوِ ذلكَ، ولنقلِ الأمثالِ السائرةِ ونحوِهَا مما ليسَ هذا موضعُ
بَسْطِهِ، وهذا الجوابُ ذكرَهُ أبو العباسِ ابنِ تيميةَ في بعضِ كلامِهِ القديمِ وهُوَ
يقْتضِي أنَّ دلالةَ "إنَّما" على الحصرِ إنَّما هوَ بطريقِ العُرفِ والاستعمالِ لا
بأصلِ وضعْ اللغةِ، وهو قولٌ حكاهُ غيرُهُ في المسألةِ.
وأمَّا قولُه تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) .
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الربا في النسيئةِ"، و"إنَّما الشهرُ تِسع وعشرونَ " وقولُهُم: "إنَّما العالِمُ زيد" ونحوُ ذلك، فيُقالَ: معلومٌ منْ كلامِ العربِ أنَّهم ينفونَ الشيءَ في صِيغ الحصْرِ وغيرِهَا تارةً لانتفاءِ ذاتِهِ وتارةً لانتفاءِ فائدتِهِ ومقصودِهِ، ويحصرونَ الشيءَ في غيرِه تارةً لانحصارِ جميع الجنسِ فيه وتارةً لانحصارِ
المفيدِ أو الكاملِ فيه، ثمَّ إنهم تارة يعيدونَ النفيَ إلى المسمَّى وتارةً إلى الاسم
وإنْ كان ثابِتًا في اللغةِ إذا كان المقصودُ الحقيقيُّ بالاسْم منتَفِئا عنه ثابِتًا لغير
لقولِهِ تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَوْرَاةَ وَالاٍنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبكمْ) ، فنَفَى عنهُم مسمَّى الشيءِ معَ أنَّه في الأصلِ شامل لكلِّ موجودٍ مِنْ حق وباطلٍ كما كانَ ما لا يفيدُ ولا منفعةَ فيه يَؤُولُ إلى الباطلِ الذي هو العدمُ فيصيرُ بمنزلةِ المعدومِ بلْ قدْ يكونُ أولَى بالعدمِ منْ المعدَمِ المستمرِ عدمُهُ لأنَه قدْ يكونُ فيه ضررٌ فجنْ قال الكذبَ فلم يَقُل شيئًا