وهو هَاهُنا حصرُ الخشيةِ في العلماءِ، وأما حصرُ الثاني في الأولِ فقد ذكره
الشيخُ أبو العباسِ ابنِ تيمية - رحمه الله - وأنه قدْ يكونُ مرادًا أيضًا فيصيرُ
الحصرُ من الطرفينِ ويكونانِ متلازمينِ، ومثلُ ذلك كقولِهِ: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ
اتَبَعَ الذكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) ، و (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) .
قالَ: وكذلك الحصرُ في هذه الآيةِ أعني قولِهِ:
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
فتقتضي أنَّ كلَّ من خشيَ اللَّهَ فهو عالِم، وتقتضي أيضًا أنَّ العالِمَ منْ يخشى
اللَّهَ، وبيانُ الحصرِ الذي ذكره الشيخُ - رحمه اللَّه - في هذهِ الآياتِ أنَّ قولَه: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) فيه الحصرُ من
الطرفينِ، فإن اقتضى أن إنذارَهُ مختصٌّ بمن اتبع الذكر وخشيَ الرحمنَ
بالغيبِ فإن هذا هو المختصُّ بقبولِ الإنذارِ، والانتفاع به فلذلك نفَى الإنذارَ
عن غيرِهِ، والقرآنُ مملوء بأنَّ الإنذارَ إنما هو للعاقلِ له خاصةً، ويقتضي أنه لا يتبعُ الذكرَ ويخشى الرحمنَ بالغيبِ إلا منْ أنذره أيْ مَنْ قَبِلَ إنذارَهُ وانتفعَ به فإنَّ اتباعَ الذكرِ، وخشيةَ الرحمنِ بالغيبِ مختصة بمن قَبِلَ الإنذارَ كما يختصُ قبولُ الإنذارِ والانتفاعُ بأهلِ الخشيةِ واتباع الذكرِ.
وكذلك قولُه: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا) .
وقولُه: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا) الآية.
فإن انحصارَ الإنذارِ في أهلِ الخشيةِ، كانحصارِ أهلِ الخشيةِ في أهلِ الإنذارِ، والذين خرُّوا سجدًا في أهل الإيمانِ ونحوِ ذلك فكذلكَ قولُه:
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
وقد فسَّرها السلفُ بذلك أيضًا كما سنذكرُهُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى -
ونذكرُ شواهدَهُ.