للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نعمة الله عليهم، فإنهم -أعني المدعين لهذه الدعوى والمقررين لها- مجتهدون يعرف أحدهم من الأدلة ما يمكنه بها الاستنباط مما لم يكن قد عرفه عتاب بن أسيد قاضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اليمن، ولا معاذ بن جبل قاضيه فيها وعامله عليها، ولا شريح قاضي عمر وعلي -رضي الله عنه- على الكوفة".

ثم يقول الصنعاني: "فهلا جعل هذا المقلد إمامه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عوضا عن إمامه، وتتبع نصوص الكتاب والسنة عوضا عن تتبع نصوص إمامه، والعبارات كلها ألفاظ دالة على معان، فهلا استبدل بألفاظ إمامه ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها ونزل الأحكام عليها, إذا لم يجد نصا شرعيا عوضا عن تنزيلها على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصا؟ تالله لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، من معرفة الكتاب والسنة إلى معرفة كلام الشيوخ والأصحاب وتفهم مرامهم، والتفتيش عن كلامهم، ومن المعلوم يقينا أن كلام الله تعالى وكلام رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة المرام، فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه والأسماع، وأقربه إلى الفهم والانتفاع، ولا ينكر هذا إلا جلمود الطباع، ومن لا حظ له في النفع والانتفاع، والأفهام التي فهم بها الصحابة الكلام الإلهي والخطاب النبوي هي كأفهامنا، وأحلامهم كأحلامنا، إذ لو كانت الأفهام متفاوته تفاوتا يسقط معه فهم العبارات الإلهية والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين، ولا مأمورين، ولا منهيين، لا اجتهادا ولا تقليدا.

أما الأول فلاستحالته؛ وأما الثاني فلأنا لا نقلد حتى نعلم أنه يجوز لنا التقليد، ولا نعلم ذلك إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنة على جوازه، لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز التقليد، فهذا الفهم الذي فهمنا به هذا الدليل نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل، على أنه قد شهد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بأنه يأتي من بعده من هو أفقه١ ممن في عصره وأوعى لكلامه، حيث قال: "فرب مبلغ أفقه من سامع" وفي لفظ "أوعى له من سامع".

انتهى هذا الكلام الجيد للصنعاني، ولا يخفى على القارئ أن الصنعاني يقصد الحث على الاجتهاد لمن عندهم القدرة العلمية التي تؤهلهم لفهم نصوص الكتاب والسنة، حسب القواعد الواجب مراعاتها في استنباط الأحكام، ولا يظن أن الصنعاني قصد أن من حق كل أحد أن يجتهد في استنباط الأحكام، ولو لم يكن مؤهلا التأهيل العلمي لذلك.

وبعد، فمن الأفضل في العصر الذي نعيش فيه أن يوجد تقنين شرعي موحد، لعدم توفر شرط الاجتهاد في القضاء الآن؛ ولأن النظم المعاصرة تلزم القاضي أن يحكم بالنصوص القانونية، ولا يحق له أن يخرج عنها.


١ سبل السلام، ج٤، ص١٤٨.

<<  <   >  >>