مع أنه صح النقل عن أبي حنفية -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يرى أنه لا يقضي على الغائب بشيء، فإن فقهاء الحنفية قد اضطربت آراؤهم وبيانهم في مسائل الحكم للغائب وعليه، ولم ينقل عنهم أصل قوي ظاهر تبنى عليه الفروع بلا اضطراب ولا إشكال, كما قرر ذلك صاحب كتاب جامع الفصولين، وهو من كبار فقهاء الحنفية، واستظهر أن القاضي عليه أن يتأمل في الوقائع التي تعرض عليه، ويحتاط للحقوق حتى لا تضيع، ويلاحظ الحرج الذي يمكن أن يحدث للمتخاصمين، ويقدر الضرورات، فيقضي بحسبها جوازا وفسادا وذكر مثالين لهذا:
المثال الأول: لو طلق الزوج زوجته عند العدول، ثم غاب الزوج عن البلد، ولا يعرف مكانه، أو كان مكانه معروفا، ولكن القاضي لا يستطيع إحضاره، ولا تستطيع الزوجة أن تسافر إليه هي أو وكيلها لبعده الشاسع، أو لأي مانع آخر.
المثال الثاني: لو غاب المدين وله نقد في البلد.
ويرى صاحب جامع الفصولين أنه في مثل هذين المثالين لو أقام الخصم البرهان الغائب، بحيث اطمأن قلب القاضي, وغلب على ظنه أنه حق لا تزوير فيه ولا حيلة، فينبغي للقاضي أن يحكم على الغائب أو له، وكذلك ينبغي للمفتي أن يفتي بجواز ذلك، دفعا للحرج عن الناس والضرورات، وصيانة للحقوق عن الضياع، خاصة وأن مسألة القضاء على الغائب من المسائل الظنية الاجتهادية، وذهب إلى جواز الحكم على الغائب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد،