للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الأصل الرابع: لا يقضي القاضي وهو غضبان]

عن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان"، رواه الجماعة.

هذا الحديث الشريف يبين أصلا هاما في أصول القضاء الإسلامي، وسبب النهي -كما قال علماؤنا, رضي الله تعالى عنهم- أن الحكم في حال استيلاء الغضب على الحاكم قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق، فمنع من ذلك، وقالوا أيضا: النهي عن الحكم حال الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر, فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه المطلوب شرعا.

وإذا كان النهي عن الحكم في حال الغضب قد ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن الفقهاء -رضي الله عنهم- عدوه بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر، كالجوع، والعطش المفرطين، والوجع المزعج، ومدافعة أحد الأخبثين، وغلبة النعاس وشدة الخوف أو الحزن أو الهم أو السرور، وسائر الأمور التي يتعلق بها القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر، الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب وهو قياس مظنة، على مظنة كما قال ابن دقيق العيد١، أي: استنباط معنى دل عليه النص، فإنه لما نهى عن الحكم حال الغضب فهم منه أن الحكم لا يكون إلا في حال استقامة الفكر، فكان علة النهي المعنى المشترك وهو تغير الفكر واختلاله، والوصف بالغضب يسمى علة، بمعنى أنه مشتمل عليه، فألحق به ما في معناه كالجائع والعطشان٢.

وبعبارة أخرى فإن اقترن النهي بالغضب يشير إلى أن العلة في هذا النهي هي الغضب الذي يكون مظنة لتشويش الفكر، ولما كان التشويش معنى مناسبا لهذا الحكم, ومنضبطا فقد جعله العلماء علة بالإجماع، ولهذا قال العلماء بتحريم قضاء القاضي في كل حال يحصل له فيها تشويش الفكر بأي سبب من الأسباب، قياسا على القضاء في حال الغضب الذي ورد فيه النهي من رسول الله -صلى الله عليه


١ فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج١٣، ص١٣٧.
٢ المصدر السابق، ج١٣، ص١٣٧.

<<  <   >  >>