قوة التفكير على قوة الوجدان، ولا قوة الوجدان على قوة التفكير، وهكذا تجد وأنت تقرأ القرآن أن العقل يفهم والخيال يتصور، وذلك خلاف المألوف والمعروف لدى قراءة أي كلام أو كتاب آخر. واقرأ- على سبيل المثال- قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ «١»(٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: ٨ - ٩]. وانظر كيف تضع في خيالك إنسانا يلتف حول عنقه غل عريض، مرتفع إلى ذقنه، جعل رأسه صاعدا إلى الأعلى لا يتحرك، فتلك هي الصورة الساخرة للتكبر. ثم انظر حاله وهو في مكان مغلق، وقد غشى الظلام على بصره، فهو لا يملك حراكا نحو أي اتجاه، وتلك هي صورة من لم ينفع معه هدي، وظل في ضلاله.
رابعا- جلال الربوبية وكبرياء الألوهية في آياته
من أجلى مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم ما يوجد في كثير من آياته من جلال الربوبية وكبرياء الألوهية، بقطع النظر عن المعنى الذي يؤديه اللفظ. وهذا مما لا يقوى على اختلاقه أي إنسان، في أي صنف من أصناف المعاني والكلام.
وبيان ذلك: أن الكلام مرآة لطبيعة المتكلم، تتجلى فيما يكتب أو يقول، وتزداد وضوحا كلما تنوعت أبحاثه ومواضيعه. وإذا كان في مقدور الإنسان أن يظهر بصورة
طبيعية أخرى، فإن ذلك لا يمكن أن يصل إلى حد التناقض، بحيث ينطبع بخصائص البشرية تارة، وبخصائص الألوهية أخرى. وإذا كان هذا غير ممكن، فلا يمكن لإنسان ما أن يصوغ كلاما ينشر من حوله عظمة الربوبية وكبرياء الألوهية في صياغة لا تكلف فيها ولا تمثيل، كما هو ظاهر في كلام الله عزّ وجلّ.