الديانات الشاملة التي تؤمن بإله واحد للكون، فإنه راح يبحث عن ديانة تستهويه وتشبع أشواقه الروحية، ومن ثم فإنه اتجه إلى انتقاد التعاليم والطقوس التي تعجبه دون أن تحمله أية أعباء أخلاقية بكلام آخر فإنه حين تمت علمنته لم يعد يبحث عن الإله في السماء، ووجد نفسه يبحث عن آلهة أخرى في الوحل! هذا ما يفسر الوثنيات الجديدة التي ظهرت في بريطانيا وفي عدة دول أوروبية أخرى، التي وصفها أحد مثقفي الكنيسة الإنجيلية بأنها "ديانات العلمانية".
الانفلات العقيدي استصحب ذلك الانفلات الأخلاقي الذي يعد الشذوذ الجنسي أحد أبرز تجلياته، وهذا وذلك من إفرازات العلمنة وتداعياتها الضرورية، وفي الموسوعة التي نتحدث عنها معالجة مستفيضة لمفرادات العلمنة وتعبيراتها المجازية، ومن عنواينها التي تعنينا في السياق الراهن ما يشير إلى الجسد والجنس كتعبيرات أساسية عن السلوك العلماني؛ إذ حين يصبح الإنسان هو المركز، ويصبح كل شيء كامنا فيه، فإن الإنسان يختزل إلى جسده، ويختزل جسده إلى نشاطه الجنسي، وهو ما أدركه واحد من أهم فلاسفة العلمانيين، آرثر شوبنهاور "القرن ١٩"، الذي أدرك في وقت مبكر أن الجسد والجنس هما التعبير المجازي عن العلمانية الأساسية، ففرويد عبر عن ذات الفكر حيث فسر السلوك الإنساني منطلقا من مركزيته معتبرا أنه جسد محض ودوافعه جسدية وجنسية.
أيضا ينبه الدكتور المسيري في الموسوعة إلى ارتباط الحضارة العلمانية بالمنفعة المادية واللذة أدى إلى تعظيم دور الجسد والجنس، وفي رأيه أن الجسد هو التعبير المجازي عن عصر الحداثة، وأن الجنس هو التعبير المجازي عن عصر ما بعد الحداثة، وهو يعزز هذا الرأي باستشهادات من أقوال كبار الفلاسفة الغربيين مثل فوكو وليوتار وغيرهما..
هذه التداعيات تهمنا للغاية؛ لسبب جوهري هو أن بعض العلمانيين في بلادنا العربية اتجهوا خلال السنوات الأخيرة إلى محاولة هتك المقدس وتفكيك الإيمان الديني، من خلال العبث بالنصوص والزعم بأنها تاريخية "صلحت لمرحلة ولا تصلح لأخرى". فضلا عن أننا صرنا نطالع شعارات من قبيل "تجفيف الينابيع" تصب كلها في ذات اتجاه حصار الدين وتفكيك الإيمان.
وهذه الدعوات تمثل لعبًا بالنار لا ريب وتقودنا إلى مآلات مدمرة للدنيا والدين معا. أما ما هي تلك المآلات، فإنك ستراها بوضوح تعرفها جيدًا، إذا قرأت المقال مرة أخرى.