هاجر إلا مختفيًا، إلّا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فإنه لمَّا همَّ بالهجرة تقلّد سيفه، وتنكّب قوسه، وأنفض بدنه -أي: أخرج أسهمًا من كنانته- وجعلها في يديه معدّة للرمي بها، واختصر عنزته، أي: حملها مضمومة إلى خاصرته، ومضى قِبَل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أتى المقام فصلّى ركعتين، ثم وقف على الحلق، واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلّا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمّل زوجته، فليتبعني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحد".
وقفة تأمل:
إنَّ القارئ لأحداث الهجرة يجد أنَّ الجميع وفي مقدمتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد هاجروا سرًّا وخفية عن قريش، أمّا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد هاجر علانية، فماذا نستفيد من هذا؟
أقول: إنّ عمر بن الخطاب لم يكن أشجع المسلمين، بل كان من بينهم، فمن هو أشجع منه، بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدانيه عمر في الشجاعة، كما علمنا من سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الحرب؛ إذ كان أقرب المسلمين المقاتلين في ميدان المعركة إلى العدو، وكان إذا اشتدت الحرب وحَمِي الوطيس اتقى الصحابة -رضوان الله عليهم- بما فيهم علي بن أبي طالب برسول الله -صلى الله عليه وسلم.
والحكمة من هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- سرًّا تعود إلى أنَّ تصرفه يعدُّ تشريعًا عامًّا لجميع المسلمين، بخلاف اجتهاد عمر في هجرته، والرسول مطلوب منه التيسير على المسلمين، وهجرته علنًا وحمل المسلمين على الاقتداء به فيه حرج شديد لهم، وتكليف لهم بما يشقّ عليهم، والله -تبارك وتعالى- جعل أساس التكليف نفي