لشرف لا يعدوه شرف، كرامة لا تعلو عليها كرامة، فأي سموّ ارتقى إليه هذا الإنسان العظيم الذي وسع خلقه كل الناس، وعمّ أرجاء الدنيا.
ولنواصل المسيرة مع شيء من ذلك النبع الفيّاض في حياة الرسول الوفي -صلى الله عليه وسلم:
كان يقف كل يوم عقب صلاة الصبح ويقول:((هل فيكم مريض أعوده؟ هل فيكم جنازة أتبعها؟ فإن قالوا: لا، قال: من رأى منكم رؤيا فليقصها))، وتموت امرأة كانت تباشر خدمة المسجد، ويدفنها المسلمون دون أن يعلموا النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم يعرف النبي بوفاتها بعد ذلك، فيحزن ويقول لأصحابه متألمًا:((هلّا أعلمتموني))، قالوا: ماتت بالليل، وكانت ظلمة، فكرهنا أن نشقّ عليك، فيذهب -عليه الصلاة والسلام- إلى قبرها، ويدعو الله لها، ثم ينطلق إلى أهلها فيقدّم لهم العزاء والسلوى.
ويبلغ به الوفاء مبلغًا هو في غاية السمو والجلال، وذلك حين يقدُم عليه وفد النجاشي ملك الحبشة، الذي كان له يد بيضاء على المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده فرارًا من ظلم قريش، واستجابة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقوم النبي بنفسه على خدمة الوفد ورعايته، فيقول له أصحابه: يا رسول الله، إنا نكفيك هذا، فيقول:((إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافأهم)).
لقد كافأهم بنفسه؛ لأن ردَّ الجميل عنده لا يقبل الإنابة، إنهم قد أكرموا أصحابه من أجله في ديارهم، وأعزوهم في هجرتهم وغربتهم، وكذلك يكون الوفاء.
وهو وفيّ في غضبه مثل وفائه في رضاه، ودودٌ في حزنه مثل ودّه في سروره، وذلك غاية الكمال والجلال، في أعقاب معركة حنين قسّم الغنائم على المهاجرين دون الأنصار، وهم الذين تحملوا عبء المعركة وأهوالها، وهم الذين ثبتوا مع رسول -صلى الله عليه وسلم- حتى تبدّل الفرار انتصارًا، وضاقت نفوس الأنصار لحرمانهم من