الغنائم، وتحدّثوا في ذلك، وعلم -عليه الصلاة والسلام- بهذا، فقام فيهم خطيبًا وقال:((يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم، قالوا: بلى، قال: ألَا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المَنُّ لله ورسوله، قال: والله لو شئتم فقلتم فصدّقتم وصُدِّقتم، جئتنا وحيدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، وخائفًا فأمّنّاك، ومخذولًا فنصرناك، فقالوا: المَنّ لله ورسوله، فقال: أوجدتم في نفوسكم يا معاشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألّفت بها قومًا أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعبًا وسلك الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، فبكى القوم، وقالوا: رضينا بالله ربًّا، ورسوله قسمًا، ثم انصرفوا وقد رضوا واطمأنوا)).
فليس حرمان الأنصار من الغنائم تخليًا عنهم، ولا قَلَا لهم، ولا نكرانًا لدورهم، ولا جحودًا لسجلهم المشرّف في تاريخ الدعوة، ولكنّه لحكمة أجَلّ وأعظم، أما الودّ فباقٍ على حاله، وأمّا الوفاء فهو منهم ولهم وبهم؛ لأنهم أنصاره وكفى.
وكان له مع الأنصار أيضًا مواقف تفيض ودًّا ووفاءً، وهم بذلك جديرون، فبعد أن أتمّ الله عليه نعمته، وأكمل له دينه، ففتح له مكة، ودانت له جزيرة العرب، سمع همسات الأنصار من حوله: إن دولة المدينة قد دالت، فإن محمدًا سيبقى في بلده مسقط رأسه، والتي يحمل إليها أسمى معاني الحب والوفاء، من يوم أن تركها إلى يومنا هذا، والتي كان يتوجّه إليها دائمًا بقوله:((والله إنك لأحب البلاد إلى الله، وإنك لأحبّ البلاد إلي، ولولا أنّ قومك أخرجوني منك ما خرجت))،