والآن قد عاد إليها وطاب له المقام فيها، ويسمع الرسول منهم ذلك، فيذهب إليهم ويقول لهم في ودٍّ ووفاء:((يا معشر الأنصار، معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم))، وهنا ترتفع أصواتهم شاكرة لله فضله، وللرسول وفاءه.
إنه سيعود إليهم وسيموت ويدفَن في المدينة، ذلك البلد الأمين الذي آواه وأيده ونصره وأعزه، عرفانًا بالجميل، ووفاء للذكرى، وتقديرًا لأهله الكرام الأوفياء.
كان -صلى الله عليه وسلم- وفيًّا للكرام الأوفياء، محبًّا لهم على البعد، مقدرًا لهم على السمعة، وكان يعطيهم حقهم من التكريم والتعظيم والوفاء، ولم يكن هذا بغريب على شيمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
بعد أن انتهت إحدى المعارك بين المسلمين وأعدائهم، وقد انتصر فيها المسلمون، ووقع في أيديهم عدد من الأسرى، سيقوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، تقدّمت إحدى الأسيرات ووقفت بين يدي الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا محمد، هلك الولد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تمنَّ علي، وتخلّي عني، ولا تشمت بي الأعداء، فإني ابنة سيد قومه، إن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويفشي السلام، ولا يرد طالب حاجة، فقال -صلى الله عليه وسلم:((من أبوك؟)) قالوا: حاتم الطائي، فقال:((لو كان أبوها مسلمًا لترحمنا عليه، فخلوا سبيلها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق))، فخرجت إلى أخيها عدي وقالت: ائت محمدًا، فإن فيه خصال الخير كلها، إنه يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الضعيف، ويعرف حق الكبير، وما رأيت أحدًا أجود منه ولا أكرم.