أما العصر العباسي -عصر ازدهار الحضارة الإسلامية- ومكانة أهل الذمة فيه؛ فيكفينا مؤنة الحديث فيه صفحة أخرى ننقلها من كتاب (الإسلام وأهل الذمة) للدكتور الخربطلي؛ لأنه يعتمد فيما يقرره على المراجع التاريخية الأساسية، أو على كتابات المستشرقين أنفسهم:
اشتهر بين أهل الذمة في العصر العباسي كثير من العظماء مثل: جرجيس بن يختيشوع، طبيب الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وقد وثق الخليفة فيه وأكرمه، ومن هؤلاء: جبرائيل بن يختيشوع، طبيب هارون الرشيد، الذي قال الرشيد عنه: كل من كانت له حاجة إليّ فليخاطب بها جبريل؛ لأني أفعل كل ما يسألني فيه ويطلبه مني، وكان مرتب الطبيب عشرة آلاف درهم شهريًّا.
واهتم الكُتَّاب المسلمون بالأديان والمذاهب؛ فكان ابن حزم الأندلسي مُلمًّا بالإنجيل واللاهوت المسيحي إلمامًا تامًّا، وألمّ ابن خلدون بالإنجيل والتنظيمات الكنسية وتحدث عن بعضها في مقدمته، وكان القلقشندي يرى ضرورة معرفة الكتاب بأعياد الذميين الدينية.
وذكر المقريزي كثيرًا من التفاصيل عن أعياد النصارى واليهود وتحدث عن فرقهم المختلفة، وذكر أسماء بطارقة الإسكندرية، وتحدث كل من القزويني والمسعودي عن طوائف أهل الذمة؛ نرى هذا واضحًا في كتاب (التنبيه والإشراف) للمسعودي.
واعترف كيرتون بتسامح حكام المسلمين؛ فقال: كان سلوك الحكام المسلمين في الغالب أحسن من القانون المفروض عليهم تنفيذه على الذميين، وليس أدل على ذلك من كثرة استحداث الكنائس وبيوت العبادة في المدن العربية الخالصة، ولم تخلُ دواوين الدولة قط من العمال النصارى واليهود؛ بل إنهم كانوا يتولون في بعض الأحيان أرفع المناصب وأخطرها فاكتنزوا الثروات الضخمة، وتكاثروا وتكاثرت لديهم الأموال الطائلة كما اعتاد المسلمون المساهمة في الأعياد المسيحية.