للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولقد اتجه العرب إلى الخطابة بفطرتهم دون أن يتأثروا بغيرهم من الأمم الأخرى، وكان استعدادهم لها واضحًا طبيعةً وسجيةً، عاش العرب في الجاهلية أحرارًا أباة للضيم، لُسْنًا فِصاحًا، يتفاخرون بإجادة القول كما يتفاخرون بالشجاعة والكرم، وأسعفتهم بديهة حاضرة، ولغة رنانة غنية، واشتعلت بينهم حروبٌ ومنازعاتٌ؛ فازدهرت الخطابة عندهم؛ لكنهم في الغالب لم يتصوروا الموضوع وحدةً ذات معانٍ مرتبةٍ كما تصور اليونان والرومان؛ وإنما كانت لهم لفتات ونظرات إلى ما يهمهم من الموضوع؛ فلا يستقصون ولا يرتبون الأفكار.

ولعل سبب ذلك: شيوع الارتجال، وفي هذا يقول الجاحظ: وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال؛ وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة؛ وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين ينتحي على رأس بئر أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب؛ فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد؛ فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنسال عليه الألفاظ انسيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدًا من ولده، وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارس ...

ولهذا كثرت حكمهم القصار، وشاع بينهم الإيجاز، وبان في خطبهم أثر الارتجال والانفلات من ترتيب الخطبة إلى مراحل وأجزاء، واتسمت معانيهم بالصدق والبعد عن المبالغات.

<<  <   >  >>