ما أقنعهم واستمالهم فهو خطيب، وقوله خطبة، ثم إنه من الطبيعي أيضًا أن تنشب أمور تستدعي تعاون المجتمع وتضافر قواه على اجتلاب نفع عام مشترك، أو اتقاء ضير؛ فيتصدر بعض النابهين من هذا المجتمع لقيادة الجماعة وزعامتها، عدتهم في ذلك خطابتهم.
على أن الناس في حياتهم القديمة تسلحوا بأسلحة مادية للدفاع والعدوان، وتسلحوا أيضًا بسلاح معنوي هو اللسان، وما زالت الخطابة -إلى الآن- سلاحًا مرهفًا تتصاول به الأمم، وإن جيَّشت جيوشها وافتنت في اختراع القذائف والمدمرات؛ لذلك لم يخلُ من الخطابة سجل أمة وعى التاريخ ماضيها؛ فقد حفظها خط آشور المسماري، وقيدها خط الفراعنة الهيروغليفي، ثم رواها تاريخ اليونان السياسي والأدبي منذ القرن السابع قبل الميلاد، وبها أخضع "بوذا" الجموع الهندية لتعاليمه، وبها أذاع الدين أنبياء بني إسرائيل، وكان لها مكانها العظيم في مجامع العرب قبل الإسلام وفي أسواقهم الأدبية بنوع خاص.
مكانة الخطابة لدى العرب في العصر الجاهلي:
وإذا ما تحدثنا عن الخطابة عند العرب في العصر الجاهلي؛ لوجدنا أن الظروف قد هيأتهم تمامًا ليكونوا خطباء مبرِّزين؛ فالأمية وتباعد الديار، والإحساس العميق بالسيادة عند كل قبيلة، والتنازع فيما بينهم على أتفه الأسباب، وحبهم الجارف للتفاخر بالأحساب والأنساب، وتقديرهم البالغ للشجاعة والإقدام خصوصًا في ساحة الوغى للدفاع عن العرض والشرف والكرامة ... كل ذلك وغيره جعل العرب يهتمون بالخطابة أيما اهتمام؛ حيث كانوا يقدمون خطيبهم إلى جيرانهم من أهل القبائل الأخرى؛ ليعبر عنهم ويفاخرَ بهم، وفي الحروب يهجو ويدفع، وفي المناسبات يهنئ ويحمل البُشرى.