وقد وصف القرآن الكريم قريشًا باللدد في الخصومة. قال تعالى:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}(مريم: ٩٧) وأكد هذا المعنى في قوله سبحانه: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}(الزخرف: ٥٧، ٥٨) فوصفهم بالجدل وبالخصومة الشديدة.
وهذه الأوصاف -اللدد والمبالغة في الخصومة والجدل- كلها تعني ذرابة اللسان ونصاعة البيان، والقدرة على تصريف القول وتشقيقه، والذهاب به كل مذهب عند المحاجة بين هذه القبائل، القرشية المستقرة في بطحاء مكة.
وبين هؤلاء القوم الذين عُرفوا باللَّسن والفصاحة، قضى محمد بن عبد الله طفولته الثانية وشبابه وكهولته، ويصرح النبي -صلى الله عليه وسلم- بأثر نسبه في قريش واسترضاعه في بني سعد، فيقول:((أنا أعربكم؛ أنا من قريش، ولساني لسان سعد بن بكر)) أما السر الأعظم في بلاغة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو التدبير الإلهي بأن يكون محمد أفصح العرب، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}(النساء: ١١٣) فقد امتن الله على رسوله بأنه أنزل عليه الكتاب والحكمة، وبأنه علمه علومًا لم يكن يدري عنها شيئًا، والله سبحانه إنما يمتن بجلائل النعم، فلا شك أن مما تدل عليه هذه الآية أن الله -عز وجل- ألهم رسوله روائع البيان، وخصه بالمثل الأعلى في فصاحة اللسان.
ب- شواهد على أن الرسول بلغ الغاية في البيان البشري:
وذلك في قوله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}(النساء: ١١٣) دليل على سمو بلاغة النبي، ذلك أن الله امتن عليه بتعليمه ما لم يكن يعلم،