قال الجاحظ: "والذي تجود به القريحة وتعطيه النفس سهوًا رهوًا مع قلة لفظه وعدد هجائه أحمد أمرًا، وأحسن موقعًا من القلوب، وأنفع للمستمعين من كثير خرج بالكد والعلاج. قال: والدليل الواضح والشاهد القاطع قول النبي -صلى الله عليه وسلم:((نصرت بالرعب وأعطيت جوامع الكلم)) وهي الألفاظ القليلة المحتوية على المعاني الكثيرة، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكره الإكثار من الكلام والمبالغة والتكلف فيه، وفي ذلك يقول:((ألا أخبركم بأحبكم إليَّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟!: أحاسنكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة؟!: الثرثارون المتفيهقون)) ويقول: ((أبغض الرجال إلى الله تعالى البليغ، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها)).
وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن التشادق فقال:((إياي والتشادق)) وهو أن يلوي المتكلم شدقه تفصحًا. وقال:((إن الله يكره الانبعاق في الكلام، فنضر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته)).
وكما بغض الإكثار رغب في الإيجاز، في مثل قوله لجرير بن عبد الله البجلي:((يا جرير، إذا قلت فأوجز وإذا بلَّغْتَ حاجتك فلا تتكلف)) ونلاحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو المثل الأعلى في البلاغة البشرية، لم يكتف بالتبغيض في الثرثرة والتكلف، بل أخرج هذه المعاني في كلمات قاصية تناسب هذه المعاني، وحين شبه جاء بتشبيه من شأنه العون على ما يريده، مِن تهجين الكلام الزائد عن الحاجة، وقد كان يمكن أن يعبر عن هذه المعاني التي عبرت عنها هذه الألفاظ: المتفيهقون، الثرثارون، التشادق، الانبعاق، بألفاظ مرادفة لها أخف منها وأعذب، ولكن من المتفق عليه أن من بلاغة الكلام التطابق التام بين المعاني والألفاظ المعبرة عنها.