للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولا يجوز أن يرجع إلى المستثنى منه وحده، بل إما أن يختص بالمستثنى، أو يعود إليهما، وغير خاف ان تعلُّقه بقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أولى من تعلُّقه بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا}، وذلك ظاهر للمتأمل، وهو الذي فهمه الصحابه، فقالوا: "أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن" (١) ، ولم يريدوا بذلك الاستثناء وحده، فإن الاستثناء مذكور في الأنعام أيضًا، وإنما أرادوا أنَّه عقب (٢) الاستثناء بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧) }.

وهذا التعقيب نظير قوله تعالى في الأنعام {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) } [الأنعام: ١٢٨]. فأخبر أن عذابهم في جميع الأوقات، ورَفْعَه عنهم في وقتٍ يشاؤه = صادر عن كمال علمه وحكمته لا عن مشيئة مجردة عن الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، إذ يستحيل تجرد مشيئته عن ذلك.

الوجه الرابع والعشرون: أن جانب الرحمة أغلب في هذه الدار الباطلة الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة والغضب، ولولا ذلك لما عُمِرَت، ولا قام لها وجود، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: ٦١]، وقال {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: ٤٥]، فلولا سعة رحمته ومغفرته وعفوه لما قام العالم، ومع هذا فالذي أظهره - من الرحمة في هذه الدار، وأنزله بين الخلائق - جزء من مئة جزء


(١) تقدم ص (٧٤٠).
(٢) في نسخةٍ على حاشية "أ": "عقيب".