للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من الرحمة، فإذا كان جانب الرحمة قد غلب في هذه الدار، ونالت البَرَّ والفاجر والمؤمن والكافر، مع قيام مقتضى العقوبة به ومباشرته له، وتمكنه من إغضاب ربه، والسعي في مسَاخِطِه، فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة على ما في هذه الدار تسعة وتسعين ضعفًا (١) ، وقد أخذ العذاب من الكفار مأخذه، وانكسرت تلك النفوس ونهكها العذاب، وأذاب منها خبثًا (٢) وشرًّا، لم يكن يحول بينها وبين رحمته لها في الدنيا، بل كان يرحمها مع قيام مقتضى العقوبة والغضب بها فكيف إذا زال مقتضى الغضب والعقوبة، وقوي جانب الرحمة أضعاف أضعاف الرحمة في هذه الدار، واضمحل الشر والخبث الذي فيها فأذابته النار وأكلته.

وسِرُّ الأمر أن أسماء الرحمة والإحسان أغلب وأكثر وأظهر من أسماء الانتقام، وفعل الرحمة أكثر من فعل الانتقام، وظهور آثار الرحمة أعظم من ظهور آثار الانتقام، والرحمةُ أحب إليه من الانتقام، وبالرحمة خَلَقَ خلْقه ولها خلقهم، وهي التي سبقت غضبه وغلبته، وكتبها على نفسه، ووسعت كل شيء، وما خلق بها فمطلوب لذاته، وما خلق بالغضب فمراد لغيره، كما تقدم تقرير ذلك (٣) . والعقوبة تأديب وتطهير، والرحمة إحسان وكرم وجود،


(١) يشير إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (٢٧٥٢) - (١٩) من حديث أبي هريرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ للَّه مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام. . . وأخَّر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة".
(٢) في "هـ": "خبثها".
(٣) في ص (٧٥٦).