إلى أن أرتحل إلى المحلة، وجعل كرم قاضيها مقر أمله ومحله، وفارق إخلاءه وصحبه، لما كابده من صحبته الأمر بين الفقر والغربة، فانعطفت عليه أغصان المسرة وألهنا، وأقام في رياض المكارم تحت ظلال المنى.
إلى أن حالت الحال، وأذنت شمس حياته بالزوال، فجاد بنفسه، وغاب في مغرب رمسه، بعدما وقف على أطلال الهمم، باكيا على دارس رسوم الكرم.
وكان مغرما معي بالمزاح، لابسا للخلاعة وبرد الجد عنه غير مزاح.
وأنشدني له يوما قوله:
حكَيْتُ إبليسَ خَناً ... وصُورةً مِن عَوَرِهْ
يا سابني عن العَمَى ... عندِي نِصْفُ خَبَرِهْ
فقلت له: قد سبقك إلى هذا الباخرزي، في قوله:
فلا تحسَبُوا إبْليسَ علَّمني الخَنَا ... فإنِّيَ منه بالفضائح أبْصَرُ
وكيفَ يرى إبْليسُ مِعْشارَ ما أرَى ... وقد فُتِحتْ عَيْنايَ لِي وهْوَ أعْوَرُ
وهو من قول الآخر:
وكنتُ فتًى من جُنْدِ إبْليسَ فارْتَقَى ... بِيَ الحالُ حتى صار إبْليسُ من جُنْدِي
ولو مات مِن قَبْليِ لأحْيَيْتُ بعدَه ... طرائِقَ فِسْقٍ ليس يُحسِنُها بَعْدِي
وكان إذا أغار على معنى أغار، ولا يبالي بأنه يرى مغزاه إذا انجلى الغبار، تبعا لمذهب القائل:
فإنَّ الدرهمَ المضروبَ باسْمِي ... أحَبُّ إليَّ من دينارِ غَيْرِي