للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عينيه وتكلم وعاد كما كان إلى دكانه.

وكان الرجل يمشي ببغداد فبينما هو يمشي في الطريق وإذا بدار قد وقعت عليه فخرت كالجبل العظيم، وإذا في الحائط طاقة فما أخطأت رأسه، وصارت الدار كوما وخرج الرجل من الطاقة سالما. وحدثني أبو القاسم الحضرمي قال: كنت باليمن في أرض آل الصليحي، فوشى بي واش إلى السلطان فأمر بقتلي، فأخرجت وقدمت للقتل وبركني السياف ثم قال: مد لي رقبتك! فمددت عنقي لقضاء الله عز وجل. فقال لي السياف: اشتد! قلت: دونك يا هذا فبينما نحن كذلك إذا بصائح من داخل القصر: لا تقتلوه. فخلوا سبيلي.

وجرت بقرطبة قصة غريبة في أيام المنصور ابن أبي عامر، وذلك أن رجلاً يعرف بقاسم بن محمد الشبليشي شهد عليه بالزندقة، فحبسه المنصور مدة مع جماعة من الأدباء وكلهم معروفون بالإنهماك والزندقة، وكانوا من وجوه قرطبة، وكان ينادي عليهم في كل جمعة يوقفون في أثر الصلاة بباب الجامع الأعظم، من كانت عنده شهادة فيهم فليؤدها، فثبت على قاسم عند القاضي سجل بشهادات الشهود بأنواع منكرة، تتضمن الزندقة والكفر، فطلعوا إلى القصر وعقد مجلس عظيم واستفتى الفقهاء فيه فأوجبوا قتله. فأشخص قاسم فحضر وحضر أبوه واستحضر ابنان صغيران لقاسم، ولبسوا ثياب الحداد وحمل أبوه معه نعشاً وحمالين، وجعل أبوه والصبيان يبكون على باب القصر، وأحضر لضرب رقبته سياف يعرف بابن الحبشي، ودفعت له أسياف من القصر فجعل يروزها ويلمس شفارها وأبوه وابناه ينظرون إليه.

فاتفق حضور أبي الفقيه عمرو الإشبيلي على كره منه وكان يأبى الحضور فاستفتوه فقال: يا هؤلاء إن الدماء لا تسفك إلا بالحق الواضح دون الشبه، احسبوا بن الشبليشي فروجاً بماذا تذبحوه؟ فقال القاضي ابن السري: بما ثبت عندي وأمعنت النظر فيه، فقال الفقيه: أوقفني عليه فأوقفه عليه فقال: أخبرني بمن تقتله من هؤلاء الشهود؟ فقال: بهذا وهذا حتى عد خمسة. فقال الفقيه: فبجميعهم تقتله؟ قال: نعم. قال: فلو شهد منهم اثنان خاصة أكنت تقتله؟ قال: لا إنما قوى بعضهم بعضاً وزكى أكثرهم عندي. فالتفت الفقيه إلى الفقهاء المشاورين فقال: يا هؤلاء بالدعائم تقتل المسلمون عندكم وتسفك دماؤهم، فلست أرى قتله ولا أشير به! فرجع الفقهاء إلى قوله ولم يردوا عليه شيئاً بعدما أفتوا بقتله منذ ستة أشهر، فأنفض الجمع وشيم السيف فذهب البشير إلى ابن أبي عامر فأخبره بالمجلس، فقال ابن أبي عامر: مضيتم تقتلون ابن الشبليشي فدفنتم القاضي، قد استشهدنا للدين ولا قاتل لمؤجل، فحبس أياماً ثم أطلق فكان ابن ذكوان الفقيه يقول للقاضي في مثل هذا قال القائل: إذا سئلت بماذا عرفت الله تعالى؟ قال: بنقضه عزائمي. ومعنى الدعائم على لسان الفقيه هم الشهود الذين لو انفرد منهم اثنان لم يثبت الحكم بهما ولا يقبلا فيه. فإذا كثروا قوى بعضهم بعضاً فلا يثبت الحكم بهم.

وفي نقيض هذا حدثنا القاضي أبو مروان الداني بطرطوشة، وقد ولي قضاءها فتذكرنا يوماً فقال: نزلت قافلة بقرية خربة من أعمال دانية، فأووا إلى دار خربة هناك ليستكنوا فيها من الرياح والأمطار، فاستوقدوا نارهم وسووا عيشهم وقرب تلك الدار حائط مائل قد أشرف على الوقوع، فقال رجل منهم لأهل القافلة: يا هؤلاء لا تقعدوا تحت هذا الحائط ولا تدخلوا هذه البقعة. فأبوا إلا دخلوها وبات الناهي متبرئاً خارجاً عنهم لم يقرب ذلك المكان، ثم أصبحوا في عافية وحملوا دوابهم، فبينما هم كذلك إذ دخل الرجل المحذر الدار ليصطلي ببقية النار فخر الحائط عليه فمات مكانه.

وبلغني عن بعض الفقهاء أن جيشاً من الجيوش كان

<<  <   >  >>