للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بجزيرة صقلية ناهضاً من مكان إلى مكان فقعدوا ساعة لبعض شأنهم، فإذا عقرب تدب فضربها بعض الأجناد بمقرعة كانت معه ثم رفع المقرعة إلى نحو عنقه، فإذا بالعقرب قد تشبثت بأهداب المقرعة وهو لا يشعر فلدغته في عنقه فقضى مكانه.

وأخبرني القاضي أبو الوليد الباجي عن أبي ذر قال: كنت أقرأ على الشيخ أبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين ببغداد جزءاً من الحديث في حانوت رجل يبيع العطر، فبينا أنا جالس معه في الحانوت إذ جاءه رجل من الطوافين ممن يبيع العطر في طبق يحمله على يده، فأعطاه عشرة دراهم وقال له: ادفع إلي أشياء سماها من العطر، فأخذها في طبقه ومضى فسقط الطبق من يده فتفرق جميع ما كان فيه. فبكى الطواف وجزع حتى رحمناه فقال أبو حفص لصاحب الحانوت: لعلك تجبر له بعض هذه الأشياء. فقال: نعم، ونزل فجمع ما يجتمع منها وجبر له بعض ذلك، فأقبل الشيخ على الطواف يصبره ويقول له: لا تجزع فأمر الدنيا أيسر من ذلك.

فقال الطواف: لا تظن أيها الشيخ أن جزعي لما ضاع، لقد علم الله تعالى مني أني كنت في القافلة الفلانية، فضاع لي هميان فيه أربعمائة دينار أو أربعة آلاف درهم، الشك من أبي ذر، ومعها فصوص قيمتها مثل ذلك فما جزعت لضياعها ولكن طلع لي الليلة مولود فاحتجت في البيت إلى ما تحتاج إليه النفساء، ولم يكن عندي غير هذه العشرة الدراهم فأشفقت أن أشتري بها حوائج النفساء، فأبقى بغير رأس مال ولا أقدر على التكسب، فقلت أشتري بها شيئاً وأطوف به صدر نهاري، فعسى أستفضل شيئاً أسد به رمق أهلي ويبقى رأس المال، أتصرف فيه فلما قدر الله عز وجل بضياعه جزعت فقلت: لا عندي ما أرجع به إليهم ولا ما أكتسب به، وعلمت أنه لم يبق لي إلا الفرار منهم، وإن تركتهم على هذه الحالة يهلكون بعدي، فهذا الذي أوجب جزعي.

قال الشيخ أبو ذر: وكان رجل من شيوخ الجند جالساً على باب دار يستوعب الحديث، فقال للشيخ أبي حفص: أنا أرغب إذا أتممتم أمره أن تدخل معه عندي، وقام فظننا أنه يريد أن يعطيه شيئاً. قال: فدخلنا عليه فأذن لنا فقال الجندي للطواف: لقد عجبت من جزعك فأعد علي قصتك، فأعاد عليه فقال الجندي: وكنت في تلك القافلة؟ قال: نعم وكان بها من أعيان الناس فلان وفلان، فعلم الجندي صحة قوله فقال له: وما علامة الهميان وفي أي موضع سقط منك؟ فوصف له المكان والعلامة. فقال له الجندي: لو رأيته كنت تعرفه؟ قال: نعم. فأخرج الجندي همياناً ووضعه بين يديه فقال: هذا همياني وعلامة صحة قولي أن فيه من الأحجار ما صفته كذا وكذا، ففتح الهميان فوجد الأحجار على ما ذكر فقال الجندي: خذ مالك بارك الله لك فيه! فقال الطواف: هذه الأحجار قيمتها مثل الدنانير وأكثر، فخذ أنت الدنانير فنفسي طيبة بذلك! فقال الجندي: ما كنت لآخذ على أمانتي شيئاً فدخل الطواف وهو من الفقراء وخرج وهو من الأغنياء، ثم بكى الجندي بكاء شديداً وانتحب فقال له أبو حفص: على علام تبكي، وقد أدى الله تعالى أمانتك وقد بذل لك مالاً كثيراً، وإن شئت عرضنا عليه أن يعيده عليك؟ فقال ما أبكي لذلك وإنما أبكي لأني أعلم أنه قد حان أجلي وأنه ما بقي لي أمل أؤمله ولا أمنية أتمناها إلا أن يأتيني الله بصاحب هذا الهميان فيأخذ ماله، فلما قضى الله عز وجل ذلك بفضله ولم يبق لي أمل علمت أنه قد حان أجلي. قال الشيخ أبو ذر: فما انقضى شهر حتى توفي الرجل وصلينا عليه.

قال القاضي: وحدثني أبو القاسم بن حبيش بالموصل قال: لقد جرت هاهنا في هذه الدار وهذا الحانوت، وأشار إليهما قصة عجيبة. كان يسكن هذه الدار رجل من التجار ممن يسافر إلى الكوفة في تجارة الخز، فبينما هو يحمل الخز في خرجه على حماره وفيه جميع ماله إذ نزلت القافلة، فأراد إنزاله عن الحمار فثقل عليه فأمر إنساناً

<<  <   >  >>