وقال ابن عباس: لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجله فقد هناه، وإذا صغره فقد عظمه، وإذا ستره فقد تممه. وقال الحسن: كان أحدهم يشق إزاره لأخيه نصفين. قال
المغيرة: في كل شيء سرف إلا في المعروف. وقيل للمحسن بن سهل: لا خير في السرف. فقال: لا سرف في الخير! فقلب اللفظ واستوفى المعنى. ونظمه محمد بن حازم فقال:
لا الفقر عار ولا كسب الغنى شرف
ولا السخا مفرطاً في طاعةٍ سرف
ما لك إلا اقتناء شيء تقدمه
وكل شيء إذا أخرته تلف
وأما طلحة بن عبيد الله الخزاعي المعروف بطلحة الطلحات، وما سمي هذا الاسم إلا أنه كان عظيم البذل في كل وجهة، وكان يبتاع الرقاب فيعتقها، وكان كل معتق يولد له ولد ذكر سماه طلحة، فبلغ عددهم ألف رجل، كل يسمي طلحة فسمي بذلك طلحة الطلحات، ثم ولي سجستان؛ وفيه يقول الشاعر:
رحم الله أعظماً دفنوها
بسجستان طلحة الطلحات
وبلغه أن معلمه في الكتاب كان في الحجاز قد قعد به الدهر، فأرسل إليه مع غلامه مائة ألف وقال: سلمها إليه، فإن يكن مات وله ولد فادفعها إلى ولده، وإن لم يكن له ولد ففرقها على قومه. فوافاه الرسول فوجده قد مات ولم يعقب ففرقها على قومه. وقال زيد بن أسلم وكان من الخاشعين: يا ابن آدم، أمرك الله أن تكون كريماً ويدخلك الجنة، ونهاك أن تكون بخيلاً ويدخلك النار. وقال حكيم بن حازم: ما أصبحت قط صباحاً لم أر طالب حاجة إلا عددتها مصيبة أرجو ثوابها. وقال أبو علي الثقفي المعروف: كنز لا ينفد من بر ولا فاجر. وكان الزبير من أجود الناس وأشجعهم، ولما مات وجد عليه مائتا ألف دينار. ووجد مكتوباً على حجر: انتهز الفرص عند إمكانها ولا تحمل على نفسك هم ما لم يأتك، واعلم أن تقتيرك على نفسك توفير لخزانة غيرك، فكم من جامع لبعل حليلته.
وقال علب بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما جمعت من المال فوق قوتك فإنما أنت فيه خازن لغيرك. وروى مالك ي الموطأ أن مسكيناً سأل عائشة وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس عندنا ما تفطرين عليه! فقالت: أعطيه إياه! ففعلت، فلما أمست أهدى لها أهل بيت شاة وكفنها يعني ملفوفة برغفان، فقالت لها عائشة: كلي هذا خير من قرصك. وقال عبد الله بن عمر: ما كان أحدنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسب أن له في الفضل شيئاً. وقال الحسين: كنا نعد البخيل من يقرض أخاه الدرهم. ومن عجائب ما روي في الإيثار ما ذكره أبو محمد الأزدي قال: لما احترق المسجد بمصر قال المسلمون: إن النصارى أحرقوه، فأحرقوا خاناً لهم، فقبض السلطان جماعة من الذين أحرقوا الخان، وكتب رقاعاً فيها القتل وفيها القطع وفيها الجلد، ونثرها عليهم، فمن وقعت عليه رقعة فعل به ما فيها، فوقعت رقعة فيها القتل بيد رجل فقال: ما كنت أبالي لولا أم لي! وكان بجانبه بعض الفتيان فقال له: في رقعتي الجلد وليست لي أم فادفع لي رقعتك وخذ رقعتي! ففعلا فقتل هذا وتخلص هذا.
وحكي عن أبي العباس الأنطاكي رضي الله عنه أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية بقرب الري، ولهم أرغفة لا تسع جميعهم فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام إلى أن كفوا، فلما رفع إذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثاراً لصاحبه على نفسه! وروي أنه اجتمع بالرملة جماعة من أرباب القلوب فحضر طبق فيه تين أخضر وقد غسق الليل، فكان الواحد يمد يده فإن ظفر بحبة حصرم أكلها وإن ظفر بطيب دفعه إلى صاحبه ولم يأكله، فلما رفع الطبق إذا الطيب كله في الطبق لم يأكلوا