للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهنا يستشهد بجزء من هذا الواقع العظيم لأجل مصلحة رآها، وما ذلك إلا عصبية لم يسبق إليها، وهل يوجد مثيل أبشع وأشنع من هذه العصبية والخيانة العلمية؟

والحقيقة أن هذه الرواية لا تمت إلى الواقع بصلة ما ولا تعتمد على أيِّ دليل، كما نفاه صاحب "ذكرى أبي العلاء" نفيًا باتًا، و"سر العالمين" للغزالي هو مرجع هذه الحكاية وهو ليس بتأليف الغزالي ولا أيِّ عالم بل هو اختلاق من جاهل أبله، لا يعرف العربية إطلاقًا، كما صرح به العلامة شبلي النعماني في تأليفه "الغزالي" وقد ذكر في هذا الكتاب "سر العالمين" أيضًا أن الغزالي يدعي أنه سمع بعض أبيات أنشدها له أبو العلاء، والواقع أنه ولد بعد وفاة المعري بسنين، ومما يزيد الطين بلة أن هذه الأبيات إنما هي لقائليها بشار وجرير وهما يسبقان أبا العلاء بثلاث مئة سنة.

ولا شك أن أبا العلاء لم يؤد الحج لعوائق وموانع، كما أشار إليه في الأبيات التالية من اللزوم.

أردتَ إلى الحجاز تحملًا ... فعاقتك عنه عائقاتُ الحواجز

من خوف بارئك امتطيت نجيبة ... عادت بسيرك مثل قوس الباري

فإذا وردت منى فغايات المنى ... ملقى جرائم في الحياة كبار (١)

لا يستطيع أن يقول من له ذوق أصيل إن أبا العلاء كان من منكري الحج حقيقة.

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحًا ... عني وما سمعوا من صالح دفنوا

صمُّ إذا سمعوا خيرًا ذكرت به ... وإن ذكرت بشرٍّ عندهم أذنوا

إنما كان كرهه وعداؤه لأولائك الحجاج الذي كانوا يزدادون شرًّا وشقاوةً بعد عودتهم من الحج كما قال الشاعر:

أصبح الشيخ ماردًا ... بعدما حجَّ واستلم

هذا وقد قرض أبو العلاء قصيدة لامية في "السقط" (٢) بلسان سائق الحاج تثير عزائم الضعفاء وتبعث فيهم الجراءة والهمة لأن يتوجهوا إلى البيت العتيق عن طواعية


(١) اللزوميّات ١/ ٦٢٨، ٥٨٨ (م. ي.).
(٢) (٢: ٣٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>