إن الاختلاف اللغويَّ فيما بين اللغات، ساميّةً كانت أم آريّة، يكون من جهتين: إحداهما جوهرية أصليَّة، وهي المتعلقة بأصول الكلمات أي الحروف التي تتركب منها، والثانية فرعية لما يقع من اختلاف في بعض أحرف الكلمات لا في سائرها, ولئن كانت الجهة الأولى تفرّق وتشتت ترتيب الكلمات فتختلف مسافةُ حروفها، ويتباعد أو يتقارب بعضها من بعض، فإن الكلمات في الجهة الثانية يأخذ بعضها بحَجز بعض، وتدنيها من صواحباتها اللغوية ونظائرها البدلية، فتتقارب في جميع اللهجات واللثغات واللُّغيات بحيث تتشابه ألفاظها وتأتلف أشكالها وتراكيبها، وتتجمَّع فتكون أُسَرًا لغوية مشمولةً برعاية أمّ واحدة؛ ولعلَّ ابن السراج حين ألف كتابه في الاشتقاق الأكبر، أو أبا الفتح ابن جني حين تابعه فتكلم على هذا الاشتقاق، إنما كانا يتناجَيان حين ينحيان هذا المنحى، وهذا هو السبب الذي من أجله كان (كتاب الإبدال) لأبي الطيب اللغوي الكبير هو ضالتَنا المنشودة. فكان عمودًا فقريًّا مترابط الفقرات والحلقات، بعد أن لبث حينًا من الدهر، وكثير من حلقاته مفقودة، ولم يبق منها إلَّا قليل: فلولاه لانقصم ظهر اللغة واختلَّ من هذه الجهة أمرها, لذلك يكاد الحزن يذيب شغاف القلب حين نذكر ما صنعه الدُّمستق بحلب، أو ما صنعه من قبلُ هولاكو ببغداد فخسرنا ما خسرنا من كنوز اللغة وذخائر العلم والأدب.
وبما بيَّناه نرى لزامًا علينا -بعد أن فقدنا ما فقدناه من تُراث العربية، وبعد أن أحرقَ هولاكو أمهات كتب اللغة والأدب وأصولها المضبوطة- أن نقدر مجهود الإِمام الصاغاني حقَّ قدره، فهو الذي ارتشف لمصنَّفاته اللغوية من تلك المنابع اللغوية الثَّرة وعيونها الفياضة قبل إِغراق كتبنا في دجلة، وقد حُرم من الاطلاع على تلك الأصول المضبوطة المروية عن الثقات الأثبات كلُّ من جاء بعد الصاغاني أو عاصره من اللغويين؛ ولقد ظلت بغدادُ مدينةُ السلام مركزَ العلم واللغة والأدب خمسةَ قرون متوالية، ولم يستفد العلماء من هذه المدينة الفاضلة الاستفادة المرجُوَّة، ولذلك جاءت كتبُ الصاغاني وعبابه الزاخر الذي اعتمد على تلك الأصول المضبوطة قبل غرقها محرَّرة ومنقحةً التنقيحَ كله.