ربما اغترَّ بها واستعملها واتخذها أصولًا فبنى عليها، وشهد الله أنّا قد خسرنا بضياعها خسرانًا لغويًّا مبينًا، ثم ها هو ذا أبو العلاء المعري الذي لا يُعلم له نظير في حفظ اللغة في مشارق الأرض ولا مغاربها، يذكر لنا في غفرانه قوله: ولا شكَّ أنه قد ضاع كثير من كتبه ومصنفاته: لأن الروم قتلوه وأباه في فتح حلب، ويذكر أن كتابه في (الاتباع) صغير على حروف المعجم في أيدي البغدايين، وهو دليل على أنه لم يطلع على الاتباع في غير بغداد وعلى أن سائر مصنفات أبي الطيب قد ضاعت، وما وجد لها أثر في حلب موطنه ولا في دمشق ولا غيرها، ومن علماء اللغة من ذكر أن إبدال أبي الطيب في عشرة أمثال إبدال ابن السكيت مما يدل بدون تأمل عميق على قيمة كتب أبي الطيب؛ أو ليس من حسن حظ اللغة العربية ويمن طالعنا أن نعثر في هذه العصور العصيبة المتأخرة على كتب من أصول اللغة لم يَعثر على مثلها من تقدَّمنا من علماء اللغة، ولا كتب لهم الاطلاع على فرائدها؛ وذلك مما يوجب علينا أن نعنى بها العناية كلها فنعارضها بدواوين اللغة، وننبه على ما فات معاجم اللغة منها، حتى نزيد في ثروة لغتنا التي نحن في أشدّ الحاجة إليها.
وهذا كتاب (مراتب النحويين) لأبي الطيب اللغوي، فهو والحق يقال قد امتاز على سائر كتب التراجم كبغية الوعاة وكتابي السيرافي والزّبيدي بما اشتمل عليه من أسرار العربية وتاريخها إِذ تراه يحدّثك عن منشأ اللغة العربية. وما كان لعلماء المدرستين البصرية والكوفية من أثر بيِّن محمود في ترقية هذه اللغة؛ بيد أنا نجد الإِمام السيرافي في طبقات البصريين قد أشاد بعلماء البصرة وأوفى كيل الثناء عليهم، وأعرض ونأى بجانبه عن الكوفيين بل ألقاهم وراءَه ظهريًّا؛ أما أبو الطيب اللغوي فلم يقصر كلامه في المراتب على الكوفيين، بل اعترف بفضل كلٍّ من البصريين والكوفيين على السواء، فلا يضاهيه أيّ كتاب آخر صنف في هذا الموضوع قبله أو بعده، ولا يُقاس به كتاب أبي بكر الزُّبيديّ ولا كتاب السيرافيّ، فإن هذا السيرافي العالم الكبير رُحلة الطلاب وشارح الكتاب كان عفا الله عنه لا يرى علماء الكوفة من الأحياء الموجودين، فهولم يذكر أحدًا منهم في شرح الكتاب, لأنه كان لا يقيم لأحدٍ منهم وَزنًا، ولا يعترف بمكانهم أو مكانتهم، فهل يعدّ ليت شعري هذا من الإِنصاف؟ أما صاحبنا أبو الطيب اللغويّ فإنه لم يبخس الناسَ حقوقهم، بل أعطى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، واعترف بالفضل حيث وجده لأصحابه.