هذا، ولما زرتُ مكتبة آل عابدين بدمشق وقفت على مجموعة خطية فريدة نادرة، والرسالة الأولى منها (كتاب المثنَّى) لحجة العرب أبي الطيب اللغوي، وكان رفيقي في هذه الزيارة العلمية أخي العزّ التنوخيّ المفتون باللغة وفنونها وشواردها، وأردت يومئذٍ اشتراءَ هذه المجموعة فحال حرص الدكتور أبي اليسر عابدين على مخطوطات خزانته دون الظفر بذلك، وكنت أعلم ما بينَ الأستاذ أبي قيس وبين أبي اليسر من الإِخاء والمودَّة الموروثة من الآباء فقلت، وقد نبَّهتُ به عمرًا: ليس لنشر هذه المجموعة وتحقيقها أحد غيرك ممن توفَّرت له شرائط النشر العلمي، بيد أن الأستاذ التنوخيّ لبث مشغولًا عن ذلك بمشاغل التدريس ومذاهلهِ، ومع ذلك ما برحتُ، أنا وصديقنا سالم الكرنكويّ، نكتب إليه ونحثّه على نشر كتاب المثنَّى وسائر رسائل تلك المجموعة اللغوية، ثم ألحَّ المجمع العلمي العربي عليه بنشره بعد أن قررَّ طبعَه على نفقاته، وما تمكَّن مع ذلك كله من تحقيق رغبتنا, ولا صحّت له عزيمة على الشروع في التحقيق حتى أنعم الله عليه بنعمة التقاعد (المعاش) فتفرَّغ له من بعد لأي وطول عهد، وفَرط حضّ منا وصدّ، وجاءنا بأخِرةٍ (كتابُ الإبدال) من خير ما نُشر في هذه العصور المتأخرة التي قلّت فيها الرغبة الصادقة في درس اللغة والبحث عن فرائدها وشواردها: ذلك أنه ليس لها مغانم مادية من ورائها, ولكم بحث الأستاذ التنوخي في الكتاب عن شواهد الإِبدال التي بلغت نحو ستمائة شاهد من كلام العرب، ولا يوجد كثير منها في المصادر المعروفة، وتمكن بعد صدق البحث والتنقيب من عزوها إلى قائليها، واهتمّ بتفسير غوامض التعبير، واستدرك من حروف الإِبدال كثيرًا من الفوائت التي عثر عليها في أمهات كتب اللغة مما زادت به فائدة الكتاب، ثم نشر بأمانة جميعَ حواشيه وطُرره اللغوية المروية عن أئمة اللغة، أو المنقولة عن كتبهم بخطوطهم، وقد ضاع أكثرها، أَجَلْ، ما كان ليطلعنا على كل ذلك إلَّا مَن ذاق لذة العلم، وألف الصبر على مشاقِّه، لذلك أهنئ العزَّ التنوخي على عمله هذا المبرور، وعلى ما كابده في تحرير كتابه وتصحيحِه بالاختلاف المستمرّ إلى المطبعة للإشراف على تجاربه التي لا ينبغي الاعتماد في تصحيحها على العمَّال، ولا سيما كتب اللغة التي تفسد ألفاظها بطمس حرف، أو انتقال نقطة إلى غير موضعها، ممَّا يجعل أمر التصحيح على أمثالهم عقبةً كؤودًا، ونحن في زمن قلَّ فيه الاهتمام بأمر الطبع، وضعفت الصلة بين