للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كانت إنب حج أو "منف" ثالثة المدن الكبرى في عصر بداية الأسرات من حيث الزمن، ولكنها ظلت أوفرها مجدًا وأبقاها شهرة. وتعددت الاحتمالات حول ترجمة اسمها الأول إنب حج، فهو قد يعني الجدار الأبيض، أو الحصن الأبيض، أو السور الأبيض، أو الأسوار البيضاء، ويمكن التعبير به عنها كمدينة بألفاظ شعرية، مثل الحوراء١، والحصن الأبلق، ... إلخ. أما اسم منف فكان تحريفًا لاسم "مننفر" الذي جد على المدينة بعد هذا العصر بعدة قرون خلال عصر الأسرة السادسة، وكان يخص هرم الملك ببي الأول القريب منها ويصفه بأنه الأثر الجميل أو الاستقرار الأخير، ثم أطلق فيما بعد على المدينة كلها.

نشأت المدينة قرب منطقة ذات تاريخ حضاري قديم، قامت فيها في فجر التاريخ حضارات حلوان وطرة والمعادي إلى جنوب القاهرة الحالية. ووقعت غربي النيل وكانت تصلها مياه فيضانه، وقامت لها ميناء نهرية لعلها كانت قرب محطة البدرشين وإن بعدت عنها أطلالها المتأخرة في قرية ميت رهينة الحالية بنحو ثلاثة كيلومترات. ودل على تحول أغلب النشاط الإداري إلى منف منذ أوائل عصر بداية الأسرات، ثلاث قرائن، وهي: احتفال ملوك العصر ببعض أعيادهم الرسمية وأعياد أربابهم فيها، وتأكيد نصوص المذهب المنفي في خلق الوجود "انظر ص٨٨" أنها كانت مركزًا رئيسيًّا للفصل في منازعات العرش والفصل في قضايا الأرباب منذ الأزل القديم، ثم وجود عدد كبير من المقابر الضخمة لكبار موظفي عصر بداية الأسرات في جبانتها سقارة، وقد أنشئوها بطبيعة الحال قرب مقر أعمالهم، وامتازت عن هذه المقابر خمس أخرى تحتمل نسبتها إلى ثلاثة ملوك من الأسرة الأولى وملكين من الأسرة الثانية.

وليس من شك في أن العامل الرئيسي في اختيار موقع منف مركزًا للنشاط الحكومي في عصر بداية الأسرات هو توسطها بين النهاية الشمالية للصعيد وبين النهاية الجنوبية للدلتا. وسهولة الإشراف منها على شئون الوجه البحري بخاصة. واستنتج الأستاذ كورت زيته مما ذكرته النصوص الدينية عنها، ومما رواه المؤرخان هيرودوت وديودور بشأنها وسمعاه من المصريين الذين عاصروهما٢، أن أحد فروع النيل كان يطغى على منطقتها فيجعلها كالمستنقع الكبير ويجعلها أرضها أشبه بالجزيرة الطافية أو الأرض الناهضة التي سميت "تاثنن" في النصوص المصرية القديمة. فعمد أول ملوك العصر، أو عمد مهندسوه وعماله بمعنى أصح، إلى تحويل فرع النيل عنها ناحية الغرب، ثم شقوا قناة أخرى عن قرب منها ناحية الشمال، وبذلك جفت منطقتها، وتوفرت لها حماية طبيعية مناسبة، فأصبح النيل يحميها من الشرق وفرعه يحميها من الغرب والقناة الجديدة تحميها من الشمال, ولم يكتف منشئ المدينة لها بالحماية الطبيعية وحدها، وإنما سورت بسور أو أسوار كبيرة أحاطتها من كل جانب فيما خلا ناحية الجنوب التي واجهت الصعيد، فقد ظلت مفتوحة. ويمكن تعليل تحصينها حينذاك بأحد غرضين، فهو قد يكون مجرد إجراء عادي لتعيين حدودها وتمييزها


١ Papyrus Sallier, Iv, Vs., I, ١ F.
٢ Herodotus, Ii, ٤, ٩٩; Diodorus, I, ٥٠; Sethe, Unters, Iii, ١٢٥.
ويختلف هذا التصوير عما تذكره بعض المؤلفات من أن منى أول ملوك الأسرة الأولى قد حول مجرى النيل عن منف. إذ إن تحويل مجرى النيل ليس بالأمر اليسير ويصعب تخيله لأهل ذلك العصر البعيد.

<<  <   >  >>